في حوالي الساعة السابعة مساء من يوم 10 نيسان 2008 ركبنا الباصات خارجين من دير ياسين بعد إجراء مسيرة إحياء الذكرى. في نهاية المسيرة اجتمعنا على التلة الواقعة خلف "المصحة النفسية – كفار شاؤول". موقع مغلق ومسوّر. هناك حراس يرتدون زيًا موحدًا يقفون في المدخل، لغرض التوضيح أنّ الدخول ممنوع، وحرّاس من اللون نفسه يتجوّلون في الموقع وبين مبانيه. من لا يعرف المكان كان سيظنّ أنهم يحرسون شيئا سريًا، غير متاح للجمهور الواسع. من قرّر الحَجْر الصحي لمرضى ذوي مصاعب نفسية، عرف أنه في وسعه، أيضًا، أن يمنع بواسطتهم النظر إلى تاريخ المكان الدامي. لقد حوّلهم إلى مدافعين عن السرّ.
حوالي الساعة السابعة مساء من يوم 10 نيسان 1948، وعلى التلة نفسها، نجح أبو حسن قبل 60 عامًا في الخروج من هذا المكان. لم يكن أبو حسن قيد الحجر الصحّي. لم يكن أبو حسن مريضًا. كان أبو حسن يملك بيتًا في الموقع. ولا يزال لديه بيت.
في منتصف الليلة بين التاسع والعاشر من نيسان 1948 أعطى أبو حسن بندقيته القديمة لأخيه كي يستبدله في حراسة القرية. ذهب أبو حسن لينام. على مدى الأشهر الستة التي سبقت هذه الليلة دار تبادل لإطلاق النار ومواجهات حول القرية بين يهود من جهة غفعات شاؤول، وبين الفلسطينيين من دير ياسين. خلال هذه الشهور الستة كانت دير ياسين تحت الحصار تقريبًا. حيث اضطرّ الفلسطينيون إلى التنقل عبر قرية عين كارم.
تنظّم الرجال في دير ياسين في مجموعات حراسة وأجروا دوريات راجلة نهارية وليلية لحراسة قريتهم. كان بحوزتهم بنادق قليلة وذخيرة قليلة. أبو حسن، في الثانية والعشرين من عمره آنذاك، شارك في الحراسة. في ذلك اليوم قُتل في القسطل عبد القادر الحسيني، ضابط المقاتلين الفلسطينيين في منطقة القدس. هؤلاء المقاتلون الذين لم يكونوا جيشًا مدربًا وإنما متطوعين قام بتجنيدهم من القرى المحيطة، انكسروا وبدأوا بالعودة إلى بيوتهم. وارتفع منسوب الخوف في دير ياسين.

سرنا، نحو خمسين مشاركة ومشاركًا، في شارع "كنفي نشاريم" باتجاه المصحة النفسية. رفعنا لافتات تحمل أسماء الضحايا الذين قتلوا في دير ياسين. كان حولنا سكان يهود ينظرون إلينا مصدومين، بعضهم يحتكّ بنا. الشرطة، التي تمّ تنظيم النشاط بالتنسيق معها، لم تجازف وقامت بإبعاد كل من أراد التشويش من طريقنا. سار معنا ناجون من دير ياسين. كانوا قلائل. يعيشون في منطقة القدس. معظم لاجئي القرية يتواجدون بعيدًا في رام الله والضفة الغربية وأبعد في الأردن. ممنوعون من التحرّك بما يتجاوز ما لا يسمح الجيش الإسرائيلي به. الدخول ممنوع عليهم إلى القدس. كان معنا زينب عقل ومريم عقل، وهما شقيقتان لجأتا من القرية حين كانتا طفلتين في السادسة والسابعة من العمر. خاب أملهما لعدم إمكانية الدخول إلى منطقة مركز القرية لرؤية بيت عائلتهما وقبر والدهما. قلت لهما إن مركز القرية تحول إلى مصحة نفسية. عرفتا ذلك لكنهما لم تفهما لماذا يستحيل الوصول إلى القبر. لم يكن لديّ جواب. خيّبت أملهما. كان معنا أيضًا عدد من الشبّان والشابات الذين طُرد أهاليهم من دير ياسين. أبو حسن، البالغ من العمر اليوم 82 عامًا، هو الشاهد المركزي في المسيرة.
على طرفي شارع "كنفي نشاريم" توجد اليوم مبان جديدة. في الليلة التالية للمسيرة حلمت حلمًا. رأيت هذه البيوت على شكل علامات سؤال ضخمة ومخيفة. تكاد تسقط. يمكن تفسير الحلم في سياق ذوق مصمّمي الموقع المعماريين ومخطّطيه الجدد. لكنني متأكّد من أن هذا لم يكن هو السبب في كوابيسي.  لم تكن علامة السؤال على الذوق، على الرغم من أن هذا مرتبط، أيضًا، بل على الأخلاق. تحت هذه البنايات توجد قطعة من التاريخ غير البعيد ملؤها المرارة. تحت إحدى البنايات تمّ رمي جثث تسعة أسرى من دير ياسين. قام عناصر الإيتسل بتحميل هؤلاء الأسرى وعشرات النساء من القرية على شاحنات، قاموا بمسيرة تظاهرية في الأحياء اليهودية في القدس في نيسان 1948. بعد ذلك عادوا إلى دير ياسين. تم إرسال النساء باتجاه شرق القدس بعد سرقة أموالهنّ ومجوهراتهنّ. أمّا الأسرى فقد أوقفوهم في صفّ واحد وقتلوهم بدم بارد إلى جانب محجر في القرية. لا توجد محاجر اليوم. هناك بنايات. إنها حضارة مبنية على جثث أسرى فلسطينيين.
أبو حسن صامد على الرغم من تقدّمه في العمر. صحيح أنه يتوكأ على عكاز لكن من الصعب البقاء ثابتًا في هذا الوضع. يمكن رؤية كيف أنه يبذل جهدًا، ينفعل، يحنّ، يحزن، يقاتل البنايات لكشف ما كان تحتها، يستعيد ذكريات صعبة، يصف مشاهد فظيعة، يكبت. الجسم يقظ، العقل يقظ، والقلب يقظ.
 
عكاز أبو حسن يشير باتجاه كتلة من البنايات. على مدخل إحداها كتب "دولة إسرائيل – وزارة المالية". يقول أبو حسن "هنا كانت بيوت عائلة زهران. هنا تمّ ذبح 35 شخصًا. أطفال، نساء ومسنّون. دخل اليهود إلى البيت لأنهم لاحقوا أحد المقاتلين. لم ينجحوا في القبض عليه. فقتلوا كل من كان في البيت". عملية الإخفاء لم تنجح، فأبو حسن يكشف الحقيقة.
في الليلة نفسها، استيقظ أبو حسن على صوت إطلاق رصاص وصراخ. فهم أن اليهود هجموا وأن الوضع خطير. لقد أبقى في البيت أباه وزوجة والده التي كانت رجلها مكسورة. لم يكن لينجح في إنزالها درجات بيتهم الثلاثين. فكر أن البيت سيكون أكثر أمانًا. كان على خطأ.

نزل في أزقّة القرية. كان إطلاق الرصاص على مدخل القرية. لم يكن بحوزته سلاح. تنقّل مع عدد من الشبّان بين البيوت لتقديم مساعدة. مساعدة الناس على الهرب. يقول: "تنقّل اليهود من بيت إلى بيت وقتلوا من كان فيها"، ويضيف "هرب معظم الأهالي باتجاه عين كارم. المخرج من جهة غفعات شاؤول كان مسدودًا منذ شهور. جاء الهجوم الأساسي من جهة غفعات شاؤول. في البداية صدّ مقاتلو دير ياسين الهجوم، حتى إنهم أصابوا مركبتين للإيتسل. وألحقوا بهما خسائر. بعدها هاجم اليهود بقوة أكبر، دخلوا القرية ونفّذوا مجزرة".
لدى اجتماعنا، خلف المصحّة النفسية، استعاد أبو حسن ذلك اليوم قبل 60 عامًا. على بعد أمتار منه، خلف سور موقع المستشفى يقع بيته. ولكن محظور عليه الدخول.
الهجوم، الدفاع، تبادل إطلاق النار، الفوضى، الهرب، المجزرة وسقوط القرية استمرت من الساعة الثانية صباحًا وحتى الساعة السابعة تقريبًا.
نقوم بإسناد لافتات الذكرى على سور المصحة النفسية. النساء من دير ياسين يتابعنَ الأسماء. يبحثن عن أسماء أشخاص يعرفنهنّ. بعد مرور 60 عامًا لا زلن يتأثّرن. "هؤلاء من عائلة عقل، وهؤلاء من عائلة رضوان". تتوجّه فاطمة عقل إليّ: "أين اسم جدّتي؟ ليس مسجّلا؟". قلت لها إنّ هذا غير ممكن، تعالي نفتّش معًا. "ما اسمها؟" – قالا: "صبحة". "صبحة رضوان". نبحث وتجد فاطمة شيئًا، وتقول لي "هناك صبحية، هي بالتأكيد لكنكم كتبتموه خطأ". مرّة أخرى أخيّب أملهما.
نصل إلى الساعة السادسة مساء. ضابط الشرطة الذي رافقنا طوال المسيرة مع عدد من الشرطيين، يقترب ويذكرني بأنّ التصريح الذي معنا هو حتى الساعة السادسة.
المشاركات والمشاركون صفقوا لنيطع شوشاني التي أجرت بحثا حول دير ياسين في إطار تعليمها، وتوجّهت إلى المحكمة العليا وفازت في الدعوى التي تمكّن من الاطلاع على الصور والوثائق الموجودة في "أرشيف الجيش الإسرائيلي، بشأن أحداث دير ياسين في نيسان 1948. بعدها لخّص إيتان برونشطاين باسم ذاكرات.
شلومي، ضابط الشرطة، يقوم بحركات مؤشرًا على الساعة. الإعلاميون والإعلاميات الذين جاءوا لتغطية الحدث بدأوا بإجراء مقابلات مع الناجين من المجزرة. كان أبو حسن نجمًا مرغوبًا بطبيعة الحال. لم يكن يتحدّث بالانجليزية، لغة معظم وسائل الإعلام هناك، فقام شاب فلسطينيّ بالمساعدة في الترجمة. قبيل النهاية، حين طلبت من الحضور إنهاء النشاط والتفرّق – ويا لها من مهمّة – سمعتُ سؤالا وجّهته صحفية من أحد التلفزيونات الأجنبية إلى أبو حسن. "هل يمكن أن يكون سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟". أبو حسن لم يتردّد وقال: "لن يكون سلام أبدًا". ابن أبو حسن الذي كان هو وزوجته في المسيرة أيضًا ارتبك وأطلق كلمات غير مفهومة. المترجم أيضًا كان مُحرجًا وسمعته يترجم الكلمات، لربّما بتأثير الطبيب ابن أبو حسن: "حين يعود اللاجئون سيحلّ السّلام".

من هنا، قبل 60 عامًا، في 10 نيسان 1948، حوالي الساعة السابعة مساء خرج أبو حسن من قريته باتجاه عين كارم. هناك رأى معظم سكّان قرية دير ياسين. ناموا ليلة واحدة في عين كارم قبل أن يتشتّتوا في اليوم التالي. كلّ عائلة ذهبت إلى مكان. أبو حسن تنقل ما بين شعفاط، بيت حنينا، القدس ورام الله.
الساعة الآن 18:30. نحن نتفرّق. قبل ذلك سألت أبو حسن: "ماذا جرى لزوجة والدك ووالدك؟". فقال: "لقد قُتلا في داخل البيت".



Deir Yassin Commemoration 2008 (1)



Deir Yassin Commemoration 2008 (3)



Deir Yassin Commemoration 2008 (6)



Deir Yassin Commemoration 2008 (4)



Deir Yassin Commemoration 2008



Deir Yassin Commemoration 2008 (7)