مقدمة


إن اسم المنشية هو اسم شائع بالوطن العربي كله وهناك عشرات القرى والأحياء المسماة بالمنشية في مصر والسودان وبلاد الشام. في فلسطين وحدها هناك أكثر من عشرة مواقع معروفة بهذا الاسم. أصل الكلمة هو الجذر "نشأ" والفعل "أنشأ". يبدو أن الاسم أعطي لأحياء أو قرى أنشئت حديثاً قرب مدينة أو قرية قائمة. لذلك يستعمل اسم المنشية عادة مع إضافته إلى المكان التابعة له أو القريبة منه، مثل منشية يافا أو منشية الإسكندرية أو منشية عكا التي نحن بصددها في هذا الكتيب. منشية عكا هي فصل آخر من بين مئات الفصول التي تشكل نكبة فلسطين. ورغم أن الفصول متشابهة، حيث احتلت إسرائيل القرية وهجرت أهلها وهدمت بيوتهم ومنعت عودتهم، يبقى لكل مكان خصوصيته وأهميته التي تستدعي توثيق تاريخه وجغرافيته. يصبو هذا إلى تعريف القراء على قرية المنشية قبل النكبة وبعدها من خلال معلومات جمعت من مصادر وكتب مختلفة، ومقابلات أجريت مع لاجئين من القرية، ومن خلال صور حديثة وقديمة تعكس تاريخ المكان ووضعه الراهن بعد احتلاله في 14 أيار 1948 وإقامة أحياء سكنية ومنشآت إسرائيلية على أرض اللاجئين. 

يصدر هذا الكتيب ضمن برنامج تنظمه جمعية زوخروت (ذاكرات) لإحياء ذكرى المنشية، ويشمل البرنامج أيضاً جولة تعليمية في موقع القرية بإرشاد لاجئين، ونصب لافتة تحمل اسم القرية، ثم نشر المعلومات في موقع الجمعية الالكتروني والدعوة إلى طرح النقاش حول عودة اللاجئين.

تقوم جمعية زوخروت (ذاكرات) بتوثيق هذه المعلومات عن النكبة الفلسطينية وترجمتها إلى العبرية لنشر الوعي حول هذا التاريخ بين الجمهور الإسرائيلي أيضاً، وتدعو الجمعية كذلك إلى منح حق العودة للاجئين الفلسطينيين كخطوة ضرورية لتحقيق العدالة تجاههم.

"ذاكرات المنشية // عكا " هو الكتيب رقم 50 في سلسلة الكتيبات التي تصدرها "زوخروت" عن القرى والبلدات المنكوبة في هذه البلاد، وقد صدر قبله كتيبات عن المواقع التالية: معلول، طبرية، عاقر، البروة، خبيزة، كفر سبت، القبو، عيلبون، إقرث، كفر بـِرعِم، المنشية – يافا، الغبـَيـَات، سبلان، العراقيب، كفر عنان، الدامون، مسكة، السُّميرية، سمسم، الراس الأحمر، عين كارم، عجور، كويكات، أم برج، خربة اللوز، الشيخ مونـّس، المالحة، العجمي في يافا، عمواس يالو وبيت نوبا، حطين، الكفرين، الشجرة، ترشيحا، بئر السبع، جليل، اللجون، سحماتا، الجولان، اسدود والمجدل، خربة جلمة، الرملة، اللد، عكا، حيفا، عين المنسي، الحرم (سيدنا علي)، عين غزال، لفتا ودير ياسين.

زوخروت (ذاكرات)آذار 2012

المنشية

قرية فلسطينية كانت تقع على بعد 3 كلم شمال شرق مدينة عكا، وعلى بعد 3 كلم إلى الشمال من نهر النعامين. قناة الباشا، التي كانت تجلب المياه من ينابيع الكابري إلى عكا، تبعد عن مركز المنشية حوالي نصف كيلومتر من جهة الغرب. وبسبب قربها من عكا, أتيح لسكانها الاستفادة من نظام المواصلات وغيره من الخدمات في المدينة. ويعتقد أن المنشية ظهرت إلى الوجود عقب الحروب الصليبية وأن المماليك استقدموا سكانها من شمال إفريقيا بغية إسكانهم في المنطقة التي تضاءل عدد سكانها كثيراً بسبب الحروب الصليبية والأوبئة، وإن كان صحيحا فلا ريب أن القرية تلاشت لاحقا لأنها ليست واردة في جملة القرى التي تذكر السجلات العثمانية أنها كانت تدفع الضرائب في سنة 1596. ولم تظهر القرية كذلك في خريطة الباحث الفرنسي جاكوتان من عام 1799 ويشار إلى الموقع كمكان متروك وبه آثار قديمة. وقد ورد ذكر القرية في مذكرة بعثها القنصل البريطاني في عكا إلى موشه مونتفيوري أثناء زيارته للبلاد عام 1839. فيبدو أن المنشية كانت آهلة مرة أخرى خلال القرن التاسع عشر, ووصفت بنهاية ذلك القرن أنها كانت تقع في سهل وتحيط بها الأراضي الزراعية وكانت منازلها مبنية بالحجارة والطين وعدد سكانها 150 نسمة تقريبا. وكان عدد السكان عام 1922 حوالي 370 نسمة، وفي عام 1931 ارتفع العدد إلى 460، وعام 1945 سكنها 810 أشخاص ويقدر عددهم عام 1948 بحوالي 940 نسمة، ويقدر عدد المنازل حينها بحوالي 270 منزلاً.

عند بداية القرن العشرين كان للقرية شكل مربع وكانت منازلها المبنية بالحجارة والأسمنت والطين متجاورة وكان سكانها جميعهم من المسلمين وكان فيها مقام بهاء الله مؤسس البهائية وهي ديانة ظهرت في بلاد فارس في القرن التاسع عشر. كان بهاء الله سجن في عكا على يد العثمانيين وتوفي في المدينة سنة 1892، ودفن في المنشية على قطعة أرض كان قد اشتراها هناك. وعشية النكبة كان في القرية مدرسة "إصلاحية" للشبيبة الجانحة أسست عام 1937، وكان فيها أيضاً معهد بريطاني للأبحاث الزراعية اسمه "الدبويا"، ومطار عسكري أنشأه البريطانيون على أرض صادروها عام 1923، وفي القرية مسجد بني عام 1945، ومقام أبو عتبة الذي يعود تاريخ دفنه حسب نقش على مدخل المقام إلى عام 1140 هـ، الموافق لسنة 1728 ميلادي. وكان في القرية مصنع نسيج ومصنع للمشروبات الغازية، ومبنى فخم تابع لعائلة بيضون البيروتية وكان أهل المنشية يسمونه قصر بيضون. كما توجد على أرض المنشية مقبرة لجنود فرنسيين شاركوا ضمن جيش نابليون بونابرت في احتلال فلسطين وحصار عكا عام 1799.

اشتغل قسم من الأهالي في المنشآت والمؤسسات التي كانت في قريتهم وفي مدينة عكا، إلا أن اقتصاد المنشية كان يعتمد بأغلبه على الزراعة ولا سيما الحبوب وتربية المواشي. في 1944/1945 كانت مساحة أراضي المنشية 14886 دونماً، منها 1895 دونماً بملكية يهودية. وكان ما مجموعه 253 دونما مخصصا للحمضيات والموز، 10818 دونما للحبوب و619 دونما مرويا أو مستخدما للبساتين.  وقد أدت الحفريات الأثرية في القرية في 1955-1956 إلى العثور على خمسة قبور يعود تاريخ أقدمها إلى القرن الثالث الميلادي. ويقع تل الفخار على بعد نحو كيلومتر إلى الجنوب حيث عثر على الأسس القديمة لمدينة عكا في حفريات بدأت سنة 1973. كان هناك مجموعة صغيرة من المزارعين تعيش على سفح التل في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد. وبحلول القرن السادس قبل الميلاد كانت هذه القرية قد توسعت غربا باتجاه الشاطئ وكان التل هذا هو موقع عكا في العهدين اليوناني والروماني. وبالإضافة إلى القطع الفخارية, كان التل يضم بقايا مقابر. 

احتلال المنشية

زجت المنشية في الحرب أول مرة جراء تسلل إسرائيلي وقع في 6 شباط / فبراير 1948 ففي ذلك اليوم وفق ما ذكرت صحيفة " فلسطين" شن عدد من اليهود المسلحين بالأسلحة الأوتوماتيكية ورشاشات "ستن" هجوما على القرية، ولكن سكان القرية صدوا ذلك الهجوم ولم تذكر وقوع إصابات. وعلى الرغم من عدم توفر أية تفاصيل محددة فإن الدلائل تشير إلى أن هذه القرية كانت بين القرى التي سقطت في أثناء العملية العسكرية المسماة " بن عامي" لقوات الهجناه  في 14 أيار1948. وبعد احتلالها بشهر واحد في 16 حزيران \ يونيو، ذكر رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول، دافيد بن- جوريون، في تقاريره أن تدمير المنشية بدأ فعلاً.

القرية اليوم

هدمت إسرائيل قرية المنشية سوى معالمها البارزة وبعض المنازل، وأقامت أحياء سكنية للإسرائيليين على موقعها. ولا يزال المقام البهائي وحوله حديقة البهجة قائمين، أما "الإصلاحية" فقد استعملها الاحتلال الإسرائيلي كمقر عسكري لفترة قصيرة  وعادت عام 1953 للعمل كمدرسة للأحداث وهي كذلك حتى اليوم وتسمى معهد الأخوّة. وما زال مسجد المنشية قائماً ولكنه مغلق ومحاط بسياج، بعد أن كان مستباحاً ومهملاً لسنوات عديدة منذ احتلاله، وكان قد تعرض لعدة محاولات اعتداء وهدم وحرق. ولا تزال المقبرة ظاهرة للعيان وهي أيضاً محاطة بسياج وتقوم جمعية إسلامية على صيانتها وتنظيفها، وفيها شاهد عليه كتابة بالتركية تعود إلى القرن الثامن عشر. ويعتقد البعض أن ظاهر العمر الزيداني حاكم عكا وشمال فلسطين في القرن الثامن عشر والمتوفي عام 1775 م مدفون فيها إلا أنه لا يوجد شاهد على قبر في المقبرة يشير إلى ذلك. وفي طرف المقبرة الرئيسية تقع أيضاً مقبرة بهائية وفيها مبنى ذو قبة رمادية. ومقابل المقبرة يقع مقام أبو عتبة وتسكنه عائلة عربية مهجرة من قرية كويكات. أما قناة الباشا المبنية بالحجارة فلا تزال أجزاء منها قائمة. ضمّ الإسرائيليون قرية المنشية إلى مدينة عكا وقاموا ببناء أحيائها الشرقية مثل نفيه ألون ونفيه أبيب وموريه وبن جوريون على موقع القرية وأراضيها. في سنة 1948 أنشئت مستعمرة شمرات وبستان هجليل على أراضي القرية إلى الشمال من موقعها. وبعد النكبة ضُمّت أراض من قرية المنشية إلى كيبوتس عين همفراتس الذي كان قائماً قرب المنشية منذ عام 1938. وفي عام 1972 أقيمت على أرض المنشية كلية أكاديمية إسرائيلية سميت كلية الجليل الغربي. وما زال مبنى قصر بيضون قائماً ولكنه اليوم مهمل بعد أن استعمل لسنوات كمؤسسة حكومية تابعة لوزارة الرفاه الإسرائيلية. ويمكن ملاحظة مبنيين حجريين ما زالا قائمين، أحدهما يقع اليوم في شارع أبراهام بن شوشان ويستعمله أحد الإسرائيليين كدكان كان في الأصل غرفة فوق أحد آبار المياه في المنشية، والآخر يقع في الشارع المسمّى أحاد هعام ويستعمل أيضاً كدكان، هو في الأصل منزل السيدة خضرة صقر.  وعلى الطرف الجنوبي من المنشية أقام الصندوق القومي اليهودي متنزها على اسم ليلي شارون، زوج رئيس حكومة إسرائيل الأسبق أريئل شارون. 




لتحميل الملف