كانت قرية دير ياسين تقع إلى الغرب من القدس وعلى مسافة خمسة كيلومترات منها، أما الطريق الموصلة إليها فتمر بمستوطنة "جبعات شاؤول" التي تبعد عنها أقل من كيلومتر واحد.

حتى العشرينات من القرن الماضي كانت القرية تعتمد على الزراعة المشفوعة بتربية المواشي، لكن سرعان ما طرأ في عهد الانتداب تبدل على أُسس اقتصادها بسبب ازدهار البناء في مدينة القدس، إذ كانت المنطقة المحيطة بدير ياسين غنية بالحجر الكلسي، وهو مادة البناء المفضلة في المدينة، فراح سكان القرية يستثمرون مقالع واسعة على امتداد الطريق الفرعية المؤدية إلى المدينة، وهذا ما طَوَّرَ صناعة قلع الحجارة وقطعها. وقد ازدهرت هذه الصناعة حتى بلغ عدد الكسارات في أواخر الأربعينيات أربعاً.

في سنة 1935 أُنشئت في القرية شركة باصات محلية في مشروع مشترك مع قرية لفتا المجاورة. كان وضع دير ياسين الاقتصادي جيداً نسبياًً. في عام 1943 بنيت في القرية مدرسة للبنين، وفي سنة 1946 بنيت مدرسة للبنات، ارتفع عدد سكان دير ياسين من 428 نسمة في سنة 1931 إلى 750 نسمة في عام 1948.


بين أيدينا ثلاث وثائق نادرة وجدناها في أرشيف الـ"هاغاناه" تدور حول علاقة أهالي دير ياسين الطيبة باليهود، وهي تلقى أضواء جديدة على أسباب المذبحة ودوافعها، وفيما يلي نصها:

الوثيقة الأولى:

ليس للنشر – سري التاريخ: 20/1/1948

الموضوع: شروط الاتفاق بين دير ياسين وجبعات شاؤول

في يوم الثلاثاء الموافق 20/1/1948 جرى لقاء بين وجهاء دير ياسين ورجال جبعات شاؤول، وقد توصل الطرفان إلى اتفاق حسن جوار حسب الشروط التالية:

أ) على رجال دير ياسين الإخبار عن كل تواجد لرجال العصابات في المنطقة (هذا إذا لم يتمكنوا من صدّهم عن المكان) حسب الإشارات التالية:

1- للاجتماع مع رجال جبعات شاؤول نهاراً: يُعلِّق رجال دير ياسين غسيلاً في مكان متفق عليه (قطعتان لونهما أبيض تتوسطهما قطعة سوداء)، وليلاً: ينير رجال دير ياسين بفانوس ثلاث نقاط، فيجيب رجال جبعات شاؤول بخط من الضوء، فينهي رجال دير ياسين بثلاث نقاط من الضوء.

2- بعد تبادل الإشارات المذكورة أعلاه يجب الالتقاء في مكان متفق عليه مع تبادل كلمة السر (كلمة السر تتغير كل ثلاثة أيام).

ب) تقرر كلمة سر في حالة تجول دورية لرجال جبعات شاؤول ليلاً في محيط دير ياسين (كلمة السر نافذة المفعول فقط لرجال جبعات شاؤول المتجولين في المنطقة).

ج)حركة مركبات (سيارات) أهل دير ياسين عن طريق جبعات شاؤول:

1) يُسمح بحركة كهذه فقط ما بين الساعات 7-9 صباحاً، 3-5 بعد الظهر.

2) يُسمح بمرور عدد ثابت ومحدد من المركبات، على أن تعطى أرقام المركبات مسبقاً لرجال جبعات شاؤول.

3) يحق لرجال جبعات شاؤول في كل وقت توقيف المركبات وإجراء تفتيش فيها.

4) رجال جبعات شاؤول مسئولون عن سلامة المركبات المذكورة أعلاه فقط في حدود جبعات شاؤول.

د) لن يُسمح بأي حال من الأحوال الوصول لجبعات شاؤول للأفراد سواء كانوا رجالاً، أو نساء، أو أطفالاً.

هـ) موضوع الكسارات العربية الأربع التابعة لرجال دير ياسين: كما هو معروف دارت مفاوضات من أجل تسليم الكسارات إلى اليهود طوال فترة الطوارئ، ذلك لأن الكسارات واقعة في منطقة قريبة من جبعات شاؤول. سيعقد اليوم اجتماع عام لرجال دير ياسين فيه سيقررون ماهية الثمن المطلوب لإنهاء المفاوضات المذكورة أعلاه. (بخط اليد) صادق على هذا الاتفاق قائد الهاغاناه في لواء القدس.



الوثيقة الثانية:

طنا (ع)/ التاريخ: 1/2/1948

02104 (رجل جبعات شاؤول)

الموضوع: موقف اللجنة العربية العليا تجاه علاقات اليهود ودير ياسين المتبادلة

تلقى مختار دير ياسين دعوة من اللجنة العربية العليا بتاريخ 27/1/1948 للمثول أمامها. هناك سُئِلَ عن العلاقات القائمة بين أهل قريته واليهود، وكيف لا يطلقون النار. أجاب المختار بالنفي وبأن رجال قريته واليهود يعيشون بسلام. كانت اللجنة راضية جداً من الجواب الوارد أعلاه. بصورة عامة، حسب رأي المختار، يعيرون في الآونة الأخيرة اهتماماً أقل لسلوك رجال القرية، ولا يتشددون تجاه علاقتهم باليهود.

الوثيقة الثالثة:

طنا(ع)/ التاريخ: 1/2/1948

02104 (رجل جبعات شاؤول)

الموضوع: رفض تزويد العصابات بالمتطوعين

أخبرنا مختار دير ياسين إنه في هذا الأسبوع زارت القرية عصابة بقيادة عبد القادر الحسيني، لقد طلبوا متطوعين للعصابات. رفض رجال دير ياسين ذلك، فانتقل رجال العصابة إلى بيت سوريك ومن هناك إلى رام الله.


تعقيب:

تشير المصادر العبرية إلى أن أهالي قرية دير ياسين وَقَّعُوا على اتفاق سلام محلي مع مستعمرة جبعات شاؤول في العشرين من آب 1947 برعاية الوكالة اليهودية، وأنهم حافظوا على بنود هذا الاتفاق بحذافيره، ولم يعتدوا على أي يهودي.

في 20/1/1948 تم عقد اتفاق حسن جوار بين دير ياسين وجبعات شاؤول (انظر الوثيقة الأولى) برعاية رئيس قلم استخبارات الهاغاناه في القدس يتسحاق ليفي وبمباركة قائد قوات الهاغاناه في لواء القدس دافيد شالتيئل.

كانت دير ياسين محاطة بالمستعمرات اليهودية، والطريق إليها من القدس تمر بمستعمرة جبعات شاؤول، لذا رأى أهالي دير ياسين أن من مصلحتهم المحافظة على حسن جوار حتى ولو كان ذلك على حساب قوت عيالهم حيث اضطروا إلى تسليم الكسارات الأربع التي هي مصدر معيشة الكثيرين منهم إلى اليهود، كما أن مرور أهالي دير ياسين بالمركبات من مستعمرة جبعات شاؤول كان مشروطاً ومحدوداً للغاية بحيث أصبحت دير ياسين محاصرة، ولم يبق لها مدخل سوى الطريق الالتفافية الوعرة الموصلة إلى عين كارم.

من الوثيقة الثانية يتبين أن الهيئة العربية العليا في القدس تغاضت عن العلاقات القائمة بين أهالي دير ياسين واليهود لعلمها بأن دير ياسين محاطة بمستعمرات يهودية، ولا يمكنها الصمود وحدها مدة طويلة.

من الوثيقة الثالثة يتبين أن أهالي دير ياسين أعلموا اليهود بقدوم قائد قوات الجهاد المقدس عبد القادر الحسيني إلى قريتهم، وبأنهم امتنعوا من الانضمام إليه أو من تقديم المساعدة له ولرجاله.

تشير المصادر العبرية، التي تعتمد على كتاب كان قد نشره رئيس استخبارات الهاغاناه في القدس يتسحاق ليفي عام 1986، إلى أن أهالي قرية دير ياسين رفضوا في 23 آذار 1948 استضافة وحدات عراقية وسورية تابعة لجيش الإنقاذ، على الرغم من أن اللجنة العربية العليا قد أمرتهم بذلك.

في 4 نيسان عندما دارت المعارك للسيطرة على القسطل، اقترح كامل عريقات، نائب عبد القادر الحسيني، على وجهاء قرية دير ياسين وعين كارم إدخال مقاتلين لقراهم للمحافظة على أرواحهم، لكن وجهاء قرية دير ياسين أجابوه: "توجد (لنا) علاقات سلام (مع اليهود) ودخول غرباء ينقضها".

ويستطرد يتسحاق ليفي في شرح علاقة الهاغاناه بمذبحة دير ياسين، فيقول:"عندما علمت برسالة شالتيئل إلى الإيتسل ذهبت إليه مسرعاً وشرحت له خطورة عمله، وبأن سكان القرية مخلصون للاتفاقية التي بيننا وبينهم، ولا يجوز المساس بهم بهذه الصورة البشعة. لقد طلبت الإذن بأن أُخبر السكان بأن الهاغاناه لم تعد مسؤولة عن سلامتهم وتنصحهم بمغادرة القرية، بدون أن أكشف لهم بأن الهجوم عليهم بات وشيكاً، ولكن شالتيئل رفض طلبي، وقال إنه لا يستطيع المجازفة بعملية يقوم بها يهود بواسطة إعطاء العرب أي إشارة حتى لو كانت معهم اتفاقية، أنا اعتقد بأنه لو منع شالتيئل المنظمتين (إيتسل وليحي) من القيام بالهجوم على القرية، استناداً إلى الاتفاقية مع دير ياسين، لامتنعتا عن مهاجمة القرية".

وجاء في الرسالة التي أرسلها يتسحاق ليفي المذكور أعلاه عام 1971 إلى مناحيم بيغن ما يلي:" دير ياسين قرية هادئة، مثل قرية أبو غوش، عقدت معنا اتفاقاً بأن لا تؤوي العصابات. لقد وقعت القرية تحت ضغوط هائلة من جانب القيادة العربية ولم تستسلم. قبل خمسة أيام من هجوم (الإيتسل وليحي) على القرية دعا كامل عريقات وجهاء القرية وطلب منهم أن يستوعبوا عصابات مقاتلة. لقد رفضوا ذلك لأنهم خافوا منا، وآمنوا بالاتفاق الذي عقدناه معهم"،

وجاء في الرسالة أيضاً: "بعد احتلال القرية حُشِرَ رجال ونساء وأطفال في شاحنات ونقلوا إلى شوارع القدس، بعدها أُعيد معظمهم إلى القرية وقتلوا رمياً برصاص البنادق والرشاشات. هذه هي الحقيقة، وهي مثبتة ومسجلة في مؤسسات الدولة... إزاء استمرار نشر الرواية الكاذبة حول دير ياسين بين الجمهور سيكون من الواجب كشف الموضوع وستقع المسؤولية عليك".

لن نخوض في تفاصيل مذبحة دير ياسين التي وقعت في 9 نيسان 1948 فقد أتى على ذكرها كثير من الباحثين العرب واليهود، ولكننا نود أن نشير إلى بعض ما توصل إليه الدكتور شريف كناعنة في دراساته عن دير ياسين- القرية والمذبحة- حيث يقول: "كانت دير ياسين محاطة بست مستعمرات صهيونية تفصلها كلياً عن باقي العالم، والطريق الوحيدة التي تربطها بالقدس كانت تمر من وسط مستعمرة جبعات شاؤول، وكانت مستعمرة موتسا تمتد ما بين دير ياسين وشارع تل أبيب- القدس، أي لم تكن دير ياسين تشكل عائقاً لوصول الإمدادات إلى القدس. لقد أدرك سكان دير ياسين مدى صعوبة وضعهم الحرج، الأمر الذي جعلهم يحاولون المحافظة على علاقة جيدة مع المستعمرات المجاورة".

والسؤال المطروح هو: إذا كانت دير ياسين غير معادية، ولم تكن تشكل خطراً على المستعمرات المجاورة، ولا تهدد طريق القدس- تل أبيب، فلماذا إذاً تم اختيارها لتكون مسرحاً للمذبحة؟

يقول الدكتور شريف كناعنة : "كانت الهاغاناه قد بدأت حملتها المسماة حملة نحشون قبل المجزرة بأيام قليلة، وكانت الحملة ناجحة وتسير على ما يرام، حيث اكتسحت قوات الهاغاناه معظم قرى باب الواد، وكانوا في طريقهم ليصبحوا "أبطال تحرير القدس اليهودية"، وكان التنافس بين العصابات اليهودية يكاد يُحسم لصالح الهاغاناه على حساب إيتسل وليحي، ولم يكن لدى إيتسل وليحي ما يكفي من المال والسلاح والرجال للقيام بحملة مشابهة لحملة نحشون، ومن أجل البقاء في حلبة المنافسة بين هذه العصابات، كانت إيتسل وليحي بحاجة إلى نصر سهل ومدوّ في القدس أو المنطقة المحيطة بها. مثل هذا النصر كان مضموناً في حالة دير ياسين بسبب صغر حجمها وقربها من القدس وإمكانية مداهمتها عبر جبعات شاؤول، وفكرتهم السابقة بأن القرية مسالمة وقليلة السلاح، وضعيفة في نظرهم-كونها عقدت اتفاقيات عدم اعتداء مع المستعمرات المجاورة، بالإضافة إلى عامل اقتصادي مهم وهو أن أفراد العصابتين كانوا بحاجة ماسة إلى إمدادات الطعام، وكان الوضع الاقتصادي في دير ياسين جيداً نسبياً إلى الحد الذي رأوا فيه حلاً لمشكلتهم".

تشير المصادر العبرية إلى أن الهجوم على دير ياسين قد نفذته وحدات من الإيتسل وليحي تساندها وحدة راجلة من البلماخ مزودة بمدافع هاون كلها تابعة للهاغاناه، ولذلك كانت كلمة السر هي (الوحدة المقاتلة) ويرمز بالوحدة إلى وحدة الثلاث تنظيمات لأول مرة في القتال ضد العرب. لا يزال ملف دير ياسين في أرشيف الجيش الإسرائيلي مغلقاً أمام الباحثين بحجة ضروريات الأمن! هناك حاجة إلى إعادة نظر في هذه القضية الهامة.