نشهد في الفترة الأخيرة محاولات متزايدة من وزارة الثقافة الإسرائيلية لتعزيز "الإنتاج الفني الصهيوني" من خلال تقديم جوائز متعددة مثل "أحسن إبداع فني صهيوني"، أو "أفضل فيلم صهيوني".

 وثمة تفسيران يمكن التفكير فيهما هنا: الأول هو كون هذه الجوائز دليلا إضافيا على التطرف المتزايد داخل الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي، ومثالا على إنكار الوجود الفلسطيني في المجال الثقافي الإسرائيلي، مثلما هي الحال في المجال السياسي. أما التفسير الثاني فهو النظر إلى هذه الجوائز بكونها نتيجة خوف وزارة الثقافة الإسرائيلية من ازدياد الكتابة والإنتاج الفني في المجتمع المدني الإسرائيلي حول مواضيع تتناول النكبة الفلسطينية، والترحيل الجماعي، ومنع عودة اللاجئين، والاحتلال العسكري المستمر منذ العام 1967.

 ومن الأمثلة التي يبدو أنها أثارت وزارة الثقافة ودفعتها إلى تبني تعزيز "الإنتاج الفني الصهيوني" قرار مهرجان سديروت للسينما في العام 2011 افتتاح هذا الحدث بفيلم "شهادات" لشلومي الكابتس الذي يظهر فيه ممثلون إسرائيليون مشهورون يسردون قصص فلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال، وكذلك مسيرة ذكرى النكبة (بما في ذلك دقيقة الصمت) التي عقدت في شهر أيار الماضي في جامعة تل أبيب، ورواية ألون حلو "عزبة دجاني" التي تتعامل مع الطرق غير- الأخلاقية للصهاينة في شراء واحتلال أراض فلسطينية (الرواية حازت في العام 2009 على أهم جائزة في الأدب الإسرائيلي- جائوة سابير)، أو قرار مسرح الكاميري الإسرائيلي في حيفا في العام 2011 عرض "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني.

وبحسب التفسير الثاني، فإن هذه الأصوات وبرغم كونها أقلية في المجتمع الإسرائيلي والخطاب الإسرائيلي، تشكّل خطرا على المؤسسة والرواية الصهيونية، ولذلك تحاول الحكومة الإسرائيلية إسكات هذه الأصوات بالتوازي مع فتح المجال للحد الأقصى أمام الأصوات الصهيونية الـ "كاشير"، أي التي تؤيد الرواية الرسمية والمؤسسة الحاكمة الآن. 

هذه المقالة تستعرض كتابين صدرا بالعبرية عن اثنتين من دور النشر المشهورة في إسرائيل ("هكيبوتس همئوحاد" و"عام عوفيد")، وهما ينتميان بدون شك إلى مجموعة الأعمال الفنية التي لا ترغب فيها وزيرة الثقافة الإسرائيلية. وقد  كتبا خلال العامين الماضيين من قبل كتاب في الثلاثينات من عمرهم، وبرغم أن الكتابين مختلفان نوعيا، وتجاربيا، وتحليليا، فإن من المهم قراءتهما إلى جانب بعضهما البعض.  

 "حجـر، ورقـة"

الأول كتاب تومر غاردي "حجر، ورقة"، والذي نشر في العام الماضي، هو واحد من تلك الأحجار الكريمة الأدبية التي يمكن أن نعثر عليها في إسرائيل. إنه ليس مجرد كتاب نقدي لإسرائيل، ولكن محاولة شجاعة لإنتاج كتابة عبرية صادقة حول إسكات التاريخ في الرواية الاسرائيلية الرسمية والآليات التي تسمح بذلك.

 في كتابه يكشف غاردي، الذي ولد في كيبوتس دان في الجليل، اللحظة التي بدأ فيها رحلته نحو اكتشاف تاريخ المكان. لقد كانت ليلة روتينية في الكيبوتس. مجرد مساء آخر. جلس مع صديق، وهما شابان، يتمتعان بالحياة، ويدخنان سيجارة ويشربان البيرة، ويتحدثان عن الفتيات المتطوعات اللاتي جئن إلى الكيبوتس من أوروبا. فجأة قال له صديقه، ضاحكا تقريبا، إن متحف الكيبوتس الذي كان إلى جانبهما، والجميع يسميه "بيت أوسيشكين"، مبني كله من حجارة بيوت القرية العربية التي كانت تقع في المنطقة قبل أن دمرت العام 1948. وكان صديقه يتعامل مع هذه القصة باستخفاف، كأنها أمر  فات ومات، ولكن في قلب غاردي تغير شيء في تلك اللحظة. وخرج في رحلة نحو قصة "صغيرة" في تاريخ فلسطين: رحلة إلى أسس "بيت أوسيشكين"، وإلى أنقاض قرية هونين، وإلى أعمال القصف والاغتصاب التي وقعت هناك من قبل الجيش الإسرائيلي، وإلى لاجئي القرية، وإلى أحشاء الحركة الصهيونية وذاكرتها الذاتية. "كما لو أنني ابتلعت حصانا على قيد الحياة والركل، وهو يرمح في داخلي وأنا على ظهره راكب، لأطرح سؤالا، لأوضّح، لأشكك، لأبحث، ولأدخل إلى الأرشيفات، لأقرأ الصفحات غير المقروءة، ولأفتح الملفات البنيّة المليئة بالعجب وغرائب القصص. كما يرمح في داخلي حصان، وأنا على ظهره راكب... ".

يحقق غاردي في قصة هونين عن طريق عدد من الأرشيفات الإسرائيلية ويبحر فيها مع إدراكه ويقظته حول طرائق هذه المؤسسات في التحكم بالمعرفة وإنتاج التاريخ. ليست كل الأحداث، كما نعرف جميعا، تجد طريقها إلى الأرشيف، وليست كل التفاصيل تجد طريقها إلى صفحات "الملفات البنية"، وليس كل الباحثين يسمح لهم بالوصول إلى كل المعلومات. والأسئلة لا تترك غاردي. من هم أهل هونين؟ أين هم اليوم؟ من نقل الحجر من هناك إلى كيبوتس دان في العام 1948؟ ومن الذي قرر أن "بيت أوسيشكين" سيكون "متحفا للتاريخ والطبيعة"؟ وكيف وجد أنفسهم أبناء وبنات قرية هونين، كما عشرات القرى الفلسطينية المجاورة، خارج هذا "التاريخ"؟ 

خلال بحثه في تاريخ المنطقة التي نشأ فيها يكتشف غاردي في أرشيف الدولة وثيقة سرية من أيلول العام 1948. عنوانها "قرار عمليات رقم 2" وقد تم التوقيع عليها من قبل قائد كتيبة 23 للواء "الكرمل". ويصف بند رقم 3 غرض العمل: "اقتحام قرية هونين، قتل العديد من الرجال. القبض على أسرى. تفجير بعض منازل القرية وحرق ما يمكن حرقه". هذا العمل من أعمال الحرق والتفجير، ومحاولة الإخفاء وتدمير الأدلة، يسحب البساط من تحت قدمي غاردي. ويبدأ برؤية الناقص، ويحاول أن يكتب الممحو. هكذا يجد أن الطريق من كيبوتسه إلى المطلة  يتكون كله من حجارة بيوت قرية هونين المهدومة. ويبدأ بالسؤال في كيبوتسه من الذي يعرف عن قرية هونين فيجد أن لا وجود لهذا التاريخ بين جيل الشباب بتاتا. تاريخ نسي وتم نسيانه تماما. ويريد غاردي أن يعرف المزيد حول ما هو غير موجود. يريد أن يعرف عن مصير حوالي 400 شخص من قرية هونين بقوا في بيوتهم وأمروا من قبل الجيش بأن يرحلوا من هناك. ويريد غاردي أن يعيد للناس كرامتهم، وربما حتى وطنهم.

وخلال رحلته يغرق غاردي في  المياه العكرة لعملية النسيان الإسرائيلية. ويتبين له أن أربع نساء من قرية هونين اغتصبن من قبل جنود إسرائيليين وقتلوهن بعد ذلك. ويجد وثائق المحكمة العسكرية، ويفهم أنه في نهايتها تمت تبرئة الجنود المغتصبين. مسح الجريمة، ومسح العار. مسح النساء ومسح القرية. ثم يكتشف غاردي أن الكثير من آثار الحادث غير موجود في ملف الأرشيف، ويسأل المسؤول هناك ما لا يمكن أن يسأل: "لماذا مسحت هذه الوثائق"؟، ويقال له إن هذا بسبب "الخصوصية الشخصية"، وحماية حق الفرد. ولكنه يرفض قبول ذلك وبدلا من هذا يريد أن يحمي حقوق الضحايا.يريد أن يوقف الظلم التاريخي. أن يسمّي الاغتصاب اغتصابا والتطهير العرقي تطهيرا عرقيا. ويستمر في تحقيقه، ويعثر على وثائق المحكمة من العام 1950 والتي  فيها يعترف الجنود الأربعة بالاغتصاب. ويكتب أسماءهم. ويطبع وثائق الأرشيف. ويحاول إعادة المشطوب.

مع ذلك، فإن كتابة غاردي ليست كتابة "تاريخية". فهو يكتب متحررا من أي قيد كتابي، كتابة حرة، وشخصية، وبسيطة. يتمرد على "قواعد الكتابة"،على قواعد كتابة التاريخ، وعلى قواعد كتابة الرواية. وبين فصول الكتاب يزخرف غاردي الموضوع بقصص خيالية،  تبدو أنها لا تنتمي إلى هذا الكتاب، ولكن في جميعها نجد عملية المحو والإنكار من قبل أغلبية مرتاحة، واثقة من نفسها، متغطرسة، ومعركتها هي ضد الفرد العنيد والمكافح للنظام القائم والظالم.

غاردي لم يطع. بالتأكيد خرج عن الطريقة التي تريده إسرائيل الرسمية أن يفكر بها. بدلا من ذلك هو يختار أن يرى الناس عبر الوثائق الناقصة. ويجد على موقع الإنترنت نادي لاجئي شباب قرية هونين في برلين. ويلقي نظرة على صور لاعبي فريق كرة القدم التابع لهذا النادي: "وأراه حارس مرمى فريق قرية هونين مستلقيا على جنبه، وهو مبتسم ويحمل قفازات حارس المرمى. ولديه عيون جيدة وعالية الجبين". غاردي ينجح في رؤية الإنسان. ويريد أن يتصل بأبناء هونين، ولكنه بهذا لا ينجح. وبدلا من ذلك يختار أن يتخيل اللقاء معهم. ربما هذا سيساعده على أن يكتب ما تم محوه.

"سارقـة كارثتـي"

المفارقة المثيرة هي أن ذلك الجنوح إلى الخيال مُتضمن أيضا في الكتاب الثاني الذي نستعرضه هنا، ذلك أنه يسرد علينا حوارا وهميا  بين إسرائيلي وفلسطيني (فلسطينية  لنكون أكثر دقة). يبدأ الكتاب في لقاء سريع، لبضع ثوان، بين جندي إسرائيلي في الأراضي المحتلة وطفلة فلسطينية، كانت نهايته إهداء المؤلف الكتاب لها... إلى طفلة فلسطينية مجهولة الاسم. إنه كتاب نوعم حيوت "سارقة كارثتي"، وهو إضافة هامة أخرى في الكتابة العبرية النقدية حول سياسة وجرائم إسرائيل. هذا الكتاب هو في الأساس سيرة ذاتية لشاب إسرائيلي من الشريحة الأكثر دخلا من الطبقة الاقتصادية الوسطى، أشكنازي، ضابط في وحدة عسكرية قتالية، "ملح الأرض" للمجتمع الإسرائيلي. ويحكي لنا حيوت في قصة حياته هذه، جوهر قصة دولة إسرائيل، وكتابته الحرة تمكّننا من الحصول على نظرة من الداخل على تشكيل القصة الصهيونية في إسرائيل.

ولد حيوت في كفار يحزقيل في مرج ابن عامر ("عيمق يزراعيل" بالعبري)، ويبدو أنه يتذكر طفولته بوضوح وخاصة التأثير الكبير الذي كان للاحتفالات، بما في ذلك مراسم يوم ذكرى كارثة اليهود ويوم الذكرى لجنود الجيش الإسرائيلي، في بلورة هويته. ويفهم جيدا أيضا السياق الوطني للأعياد الدينية اليهودية في إسرائيل، ويتذكر مثلا كيف تنكر في عيد المساخر اليهودي وهو طفل عمره ست سنوات لجندي إسرائيلي، ويختار الصورة من ذلك اليوم – طفل مع الحذاء، والزي العسكري وبندقية من البلاستيك – على غلاف الكتاب.

من الواضح أن حيوت رجل ناجح: هو ذكي، محبوب من قبل الفتيات، ويحب دولته ويؤمن بها وبقصصها. هو أيضا موهوب جدا، ولديه موهبة موسيقية، وخاصة في عزف البوق. لذلك صار جزءًا مهما من احتفالات مدرسته وحركته الشبابية، إذ أنه يعزف على بوقه كلما يرفع العلم أو ينزل إلى نصف الصاري. وفي المدرسة الثانوية التحق في الرحلة "التقليدية" الإسرائيلية إلى بولندا، إلى معسكرات الإبادة النازية وعلى رأسها أوشفيتز، هناك عزف البوق أيضا. وهو يدرك اليوم ما حدث له هناك، ويكتب في كتابه كيف "كنت في بولندا فخورا وسعيدا". ويشير كيف أن الهولوكوست، والذي أصابه بالحزن وهو ولد صغير، ، تحول الى رمز للمجد والقوة في وعيه وهو شاب إسرائيلي في زيارة لمعسكرات الموت في بولندا.

وعندما صار عمره 18عامًا، انضم حيوت إلى الجيش الإسرائيلي، وأصبح ضابطا، وكانت غالبية خدمته العسكرية في الأراضي المحتلة. هناك يتبنى حيوت مصطلحات ووجهة النظر الإسرائيلية العسكرية. ويصبح ضابطا يفكر بنفسه كأخلاقي تجاه السكان المدنيين الفلسطينيين. وبسبب ثقته بنفسه، ونظرته الإيجابية إلى الخدمة العسكرية، أرسله الجيش في الشهور الأخيرة لخدمته إلى ميامي كجزء من وفد جنود الجيش الإسرائيلي الذي اشترك في تنظيمه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ومنظمة "سندات دولة إسرائيل" الأميركية. وفي ميامي يشعر حيوت بما كان يريد أن يكونه كل حياته: إنه بطل. 

ولكن تحت السطح، تحت الإدمان على القوة، والشعور بالقداسة والبطولية، يتعرض حيوت الى أكبر ضربة في حياته. وهذه ليست ضربة لكمة، ولا طلقة نارية، ولكن نظرة طفلة فلسطينية فقط.

 ويشير حيوت في كتابه كيف أنه خلال واحدة من عمليات الجيش الإسرائيلي في رام الله، بعد تنفيذ "مهمة عسكرية"، كان على وشك الدخول إلى مركبته العسكرية المدرعة عندما رأى في الشارع بعض الاطفال يلعبون. ونظر إلى طفلة فلسطينية كانت تلعب هناك – "الضابط الأخلاقي الإسرائيلي، الذي لا يؤذي الأبرياء، والذي يؤمن بالسلام" – وابتسم  إليها. بذلك يريد حيوت أن يكون محبوبا، أن يكون مفهوما، أن يبعث للأولاد الفلسطينيين برسالة تقول إن "الجنود الإسرائيليين لا يطلقون النار ويقفون في الحواجز فقط، ليس هذا وحسب بل إنهم بشر أيضا". ولكن لم تتبع ابتسامته ابتسامة من الجانب الآخر. بدلا من ذلك، نظرت إليه الطفلة الفلسطينية بخوف شديد وهول. وأصيب حيوت بالرعب. أدرك أنها كانت خائفة منه حتى الموت.

يتذكر حيوت هذه اللحظة كالثانية التي فيها "سرقت" الطفلة منه كارثته. في مذكراته يسمي حيوت البنت الفلسطينية "سارقة كارثتي"، ويقول إنه عندما استدارت الطفلة، فهم أنها "ذهبت وهي تمتلك أغلى ملكيتي الفكرية والعاطفية التي ورثتها من أجدادي: كارثتي". يدرك حيوت أنه حتى ذلك الحين انقسمت حياته بين الخير المطلق (هو نفسه كممثل الشعب اليهودي) والشر المطلق (ألمانيا النازية)، ثم "أخذت مني هذه الطفلة الاعتقاد بأن الشر المطلق موجود في العالم وأنا أقاتله، لأنه بالنسبة لتلك الطفلة كنت أنا الشر المطلق".

يفهم حيوت في هذه اللحظة أن الأسطورة التي عاشها حتى تلك اللحظة، وبحسبها الهولوكوست توفّر له "شهادة تبرير" لأعماله، قد سحقت إلى أشلاء. بعد رحلة قادته إلى الهند وعودته إلى إسرائيل لم يعد حيوت نفس الشخص الذي كانه. غطاء نفاق وأكاذيب، غطاء أنصاف الحقائق التي حكاها لنفسه، والنظرة التي بناها، كل ذلك دمر من قبل تلك الطفلة في مدينة رام الله. فجأة تعود إليه ذكريات من الماضي كان قد تجاهلها حتى اليوم. يتذكر كيف اقتحم هو وجنوده بيتا فلسطينيا في طولكرم وكيف طردوا العائلة الفلسطينية من هناك. كيف أذلوا شابا فلسطينيا. وكيف ضربوا آخر. قصة التحوّل هذه رائعة ليس فقط لأن حيوت اكتشف جرائمه في وقت متأخر، ولكن بسبب الوصف المدهش للمجتمع الإسرائيلي من الداخل، من "ملح أرضها". هذا يساعد القارئ على أن يفهم كيف يعتبر استخدام العنف من جانب المحتل كـ "رد فعل" فقط؟ وكيف أن أعمالا تنعدم فيها الأخلاق تجري في إسرائيل جنبا إلى جنب مع الاعتقاد الذي بحسبه الجيش الإسرائيلي هو أكثر جيش أخلاقي في العالم؟

هذه الرحلة لحيوت، ونظرته الجديدة لنفسه وللمجتمع في إسرائيل، ممتلئة بالرؤى. عالم جديد، كان هناك طوال الوقت، ينكشف له فجأة. وهو يبدأ باستجواب جنود آخرين وبنشر شهاداتهم حول معاملتهم واعتداءاتهم على فلسطينيين في الأراضي المحتلة. ويزور حيوت الأراضي المحتلة كمواطن ويدخل طابور الفلسطينيين في قلنديا – وللمرة الأولى في حياته ينظر إلى الجندي في الحاجز على أنه المحتل وإلى الفلسطينيين الذين يقفون هناك على أنهم تحت الاحتلال. وأيضا في رحلاته في البلاد يبدأ حيوت بسؤال نفسه الأسئلة التي حتى الآن من المشكوك إذا كانت موجودة عنده في اللاوعي. "كنت أتساءل كيف يمكن أن أكون على دراية جيدة بتاريخ هذا المكان، بما في ذلك فترة الكتاب المقدس، والعصر الروماني، ولكن لا أعرف شيئا عن الخطوات الأخيرة له... كيف نتعلم عن تاريخ عيمق  يزراعيل (مرج ابن عامر) في المدرسة، وماذا حدث هناك قبل 2000 سنة، ولكن ليس حول ما حدث هناك أمس... أقرأ مرة أخرى اللافتات التوضيحية التي تصف حرب 1948، وأرى كيف منحت 'سارقة كارثتي' معنى جديدا لكل الأشياء حولي. أضافت عليها وجها، وحقائق ووقائع".

وهكذا يبدو حيوت وكأنه يتخاطب مع غاردي، ومع محاولات شجاعة أخرى لشبان إسرائيليين، وهم قلة اليوم ولكن صوتهم يزداد، لإعادة النظر في ما تريد وزارتا الثقافة والتربية أن تفرضاه. ومع ذلك، يختلف هذين المؤلفين عن بعضهما البعض. ففي حين يسلط حيوت الضوء على التغيير الذي صار لديه خلال خدمته العسكرية، ويركز على الاحتلال العسكري منذ العام 1967، يكتب غاردي أولا وقبل كل شيء كمواطن، وهو أقل قلقا من الاحتلالات الثانوية لإسرائيل وأكثر قلقًا بكثير من الزلزال الذي أسسها العام 1948.

كذلك، فقد صار الاثنان نشيطين في جمعيات إسرائيلية، مع فرق واضح: في حين غاردي أصبح شخصية بارزة في جمعية "زوخروت" ("ذاكرات") والتي تهدف إلى تعميق وعي الجمهور اليهودي في إسرائيل حيال النكبة الفلسطينية، بدأ حيوت يتطوع في جمعية "شوفريم شتيكا" ("فلنكسر الصمت") التي تهدف إلى جمع شهادات من جنود خدموا في الأراضي المحتلة من بداية انتفاضة الأقصى في العام 2000. وفي حين خطاب "ذاكرات" هو أصلا مدني، وفي أساسه عمل مشترك للإسرائيليين والفلسطينيين، يحاول ناشطو "فلنكسر الصمت" التأثير على مواطني إسرائيل من خلال قاسمهم المشترك: الجيش الإسرائيلي، واستخدام خطاب هو أكثر عسكري ورجولي. بالإضافة إلى ذلك، يرغب غاردي في لقاء أهل قرية هونين، في محاولة منه لتعزيز عدالة تاريخية، ولكن حيوت يشهد أنه خائف أن ينظر في عيون الطفلة الفلسطينية مرة أخرى. لا شك في أن غاردي وحيوت لا يتفقان بشكل كامل كل مع وجهة نظر الآخر، ولديهما اختلافات في فهم هذا الصراع، ولكنهما يشكلان صوتين نقديين مهمين يحاولان تغيير الخطاب الإسرائيلي، وعلى الأقل من وجهة نظر المؤسسة الإسرائيلية هما وجهان لعملة تهديد وجودي على أسس إسرائيل كما نعرفها الآن.

ربما في ذلك يكمن سر قوة الاثنين، لأنه على الرغم من الاختلافات في كتاباتهما، يشجع حيوت وغاردي الفكر الإبداعي لدى الشباب والمواطنين في إسرائيل. وبرغم أن إسرائيل الرسمية تصبح أكثر متطرفة سياسيا، فإن عدة أصوات مختلفة تعلو من المجتمع المدني تتحدث اليوم أكثر من الماضي عن النكبة الفلسطينية واستمرار الاحتلال الإسرائيلي.

لست متأكدا إلى أي حد يمكن أن تنمو هذه الأصوات الناقدة، وإن كانت تستطيع مع أصوات فلسطينية في إسرائيل خلق كتلة معتبرة من اليهود والعرب الذين يريدون أن يعيشوا بمساواة، وفي دولة لا تحتل شعبا آخر وحقوقه وتكون مستعدة لتحمل المسؤولية عن جرائم الماضي. وسواء حدث ذلك أم لم يحدث سيواصل غاردي وحيوت وغيرهما النشاط والكتابة من داخل إسرائيل، بطرق مختلفة. وسوف يواصل هؤلاء القيام بذلك، على ما يبدو، من دون علاقة مع مفكرين عرب في الشرق الأوسط، كما أنه لا تترجم كتبهم خشية من "التطبيع" مع إسرائيل. وربما يأتي اليوم الذي نرى فيه أن تعاونا حقيقيا مع هذه الأصوات النقدية التي تصل من إسرائيل هو الذي بإمكانه ان يغير الوضع بشكل حقيقي. ولكن إلى أن نفهم ذلك ربما يكون قد فات الأوان، فمن سيقرأ لنا بعد ما سيتم مسح كتابتنا؟