“هل نسرق الأرض؟”، دافيد ين غوريون ليوسف فايتس، 07.05.1948

سرقة أراضي البدو تمت عملياً منذ عشرات السنوات، وبالأساس بين الأعوام 1948-1954. على الورق، سرقت الدولة أراضي الفلسطينيين بواسطة قانونين مركزيين: قانون “أملاك الغائبين” من 1950، الذي استولى على أراضي اللاجئين، وقانون استملاك الأراضي من 1953، الذي سمح بمصادرة غالبية الأراضي لمن نجحوا بالبقاء في البلاد. بيد أن عمليات السلب هذه لم تستكمل: أهالي النقب العرب صمموا على التمسك بالقليل الذي تبقى من أراضيهم، وكانوا على إستعداد لعيش حياة من المعاناة المستمرة في “قرى غير معترف فيها”، المهم بأن يحافظوا على أراضيهم. وفي حين يعيش هؤلاء بظل هدم البيوت اليومي، في ضائقة مستمرة، فجل ما تحاول الدولة القيام به بالسنوات الأخيرة ما هو إلا محاولة لإستكمال ما بدؤوا به في العام 1948.

بمناسبة مسيرة العودة التي تنظم، للمرة الأولى، على أراضي النقب، وتحديداً على أراضي قرية وادي الزبالة المهجرة، نلقي فيما يلي نظرة على المداولات التي دارت داخل القيادة الصهيونية في خضم حرب ال 1948 حول أراضي النقب. هذه لحظة هامة لأنها تؤكد بأن أخصائيي الأراضي للحركة الصهيونية اعترفوا حتى ذلك الحين بحقوق البدو في هذه الأراضي. في السنوات العشر التي سبقت عام 1948، ركز هؤلاء على شراء الأراضي من البدو- ولم يكونو ليقوموا بذلك لو أنهم لم يعترفوا بحقوق الملكية للبدو. مع بداية 1948، استمروا بالاعتراف بملكية البدو، ليس من منطلق طيبة قلب ولا من منطلق مساواة- بل لأنهم لم يستوعبوا، في حينه، بأنه بالإمكان حقاُ تجاهل حقوق الملكية وسرقة الأراضي بالقوة. من أجل ذلك بالتحديد، هناك دولة. بالإمكان رؤية هذا التحول وهو يأخذ منحاه من خلال المحادثات التي جرت بين مدير قسم الأراضي في “الكيرن كييمت” (“الصندوق القومي اليهودي”) آنذاك، يوسف فايتس، وبين دافيد بن غوريون، والتي دارت بمعظمها حول أراضي النقب.

من أين لبن غوريون الأراضي؟

في تاريخ 3 شباط 1948، التقى فايتس ببن غوريون، فسأله الأخير، بشكل بدى عابراً، ان كانت “الكيرن كييمت” معنية بأن تشتري منه أرض بسعر 25 ليرة للدونم. فايتس أجابه: اذا كانت الأرض عربية، وإن كنا سنحصل على كوشان وعلى تفويض للتصرف بالأرض- سنشتري. بن غوريون ضحك وقال: “كوشان لا أما تفويض فنعم”، وهكذا انتهت المحادثة. فايتس اعتقد بأن بن غوريون يمازحه: فمن أين لبن غوريون اراضي عرب؟ وكيف بإمكانه أن يبيع أرض عربية “للكيرن كييمت”  بالرغم من أنه لم يشتريها بالشكل القانوني والمتعارف عليه؟.

في اليوم التالي، التقى مرة أخرى بن غوريون، فايتس ورئيس “الكيرن كييمت” افراهام غرانوت (غرنوفسكي)، عندها اتضح لفايتس بأن بن غوريون كان جدياً للغاية. “ممازحة الأمس حول شراء أراضي اتضحت بمثابة خطة لدى بن غوريون. جيشنا سيقوم باحتلال النقب، يضع الأراضي بين يديه ومن ثم يبيعها “للكيرن كييمت” بسعر 20-25 ليرة للدونم. هكذا سيكون لديه مصدر لصناعة الملايين”. غرنوفسكي يرد على بن غوريون ضاحكاً: “نحن لا نعيش في القرون الوسطى، والجيش ليس بسارق أراضي. بعد (انتهاء) الحرب سيعود البدو إلى مكانهم- إن خرجوا أصلاً- وسيحصلوا على أراضيهم”. لم يخطر في بال غرنوفسكي بأن هروب الناس من بيوتها بوقت الحرب سيتحول إلى حالة دائمة من اللجوء. بعد سنوات من شراء الأراضي بإسم “الكيرن كييمت”، لم يحزر رؤسائه بأن بن غوريون يفكر بضعة خطوات إلى الأمام ويرى إمكانية للسيطرة على الأراضي دون حاجة للشراء والبيع. في نهاية الحديث، يذكر فايتس بن غوريون بأن “الأرض الطيبة في النقب هي ملكية البدو، وستكون هناك حتماً حاجة للدفع مقابلها”(!). صدق فايتس فيما قال حول ملكية البدو ولكنه أخطأ عندما أعتقد بأنه ستكون هناك حاجة بعد اليوم للدفع مقابل شراء الأراضي.

الأيام هي أيام 1948، المجريات تتغير بسرعة. بعد أسبوع يلتقى بن غوريون وفايتس مرة أخرى. هذه المرة، يشرح بن غوريون كلامه بجدية ويرسم المسار الجديد للاستيطان الصهيوني. فايتس يكتب في مذكرته: “لن نشتري الأرض في النقب. سوف نحتلها. لا تنسى فايتس بأننا في حرب، وكل البدو اللذين سيحاربوننا لن يعودوا، أما هؤلاء اللذين سيبقوا هنا فسنعطيهم أراضي للتطوير وليس أموال”.

بن غوريون رأى في بصيرته لاجئين لن يعودوا، بينما تنتقل أراضيهم  لأيدي الدولة. أما بخصوص البدو اللذين سيبقوا في منطقة نفوذها، فدولة إسرائيل، التي عانت من نقص بالسيولة، لن تعوضهم إنما ستعطيهم “أرض للتطوير”- من المرجح بأن تكون من الأراضي التي سلبتها. فايتس لا يصدق ما يسمعه فيقول: “باعتقادي أنت على خطأ. أنت، كرئيس الدولة العبرية، لا يمكنك أن تسلب أرض البدو”. فايتس اخطأ مرة أخرى.

فايتس لم يقل ذلك من منطلق المدافع عن حقوق الفلسطينيين، فهو الذي أيد بشكل منهجي خطط الترانسفر حتى أنه شجعها خلال حرب 1948 بنفسه- أقنع الآخرين، تخطى معارضتهم واستعمل “الكيرن كييمت” كجسم مستقل يحث على هدم القرى والحيال دون عودة أهاليها. فايتس قال لبن غوريون بأنه لا يستطيع سرقة أراضي البدو لأنه كان معتاداً على المرحلة السابقة للاستعمار الصهيوني- مرحلة لم يتفوق فيها الإسرائيليين سياسياً بعد على الشعب الأصلاني، ولهذا فقد تمت عملية السلب والاستيطان خلالها بواسطة شراء الأراضي. فايتس لم يتصور، حتى تلك اللحظة، بأنه بالإمكان سرق الأراضي بوسائل سياسية. بن غوريون، في المقابل، الذي وقفت الدولة، على جيشها وقوتها، بمركز رؤيته، استطاع بالطبع تصور وضع يقوم به ك”رئيس الدولة العبرية” بسرقة أراضي البدو. حتى أنه رمز إلى ذلك في خطاب علني قال خلاله: “في عملية الاستيطان بالنقب علينا أن ننسى الكثير من الأمور القديمة وأن نتعلم غيرها جديدة. لن نوطن النقب بالطرق الأرثوذكسية، مع أن المؤسسات الصهيونية غير قادرة حتى الآن على التفكير بمصطلحات المرحلة الجديدة”. في “الكيرن كييمت”، أَضاف، ما زالوا معتادين على التسجيل في الطابو “ولا يؤمنون بطرق الشراء الجديدة…”.

في الأشهر التالية يحدث الإنهيار الحقيقي. يتم اخلاء قرى ومدن، تيار اللاجئين الفلسطينيين يتسع. فايتس- مثله مثل قادة صهيونيين آخرين- لا يصدق ما تراه عينيه. بعد شهرين من المحادثات أعلاه كتب لزوجته: “كم تحسن مزاجنا: جيشنا يذهب ويحتل قرى عربية، وسكانها يخافون ويلوذون بالفرار كالفئران.”، ويشرح لها أيضاً كيف تحققت هذه النتيجة: “لا فكرة لديك ماذا جرى في القرى العربية. يكفي بأن يلقوا فوقهم بضعة قذائف حتى يفروا خوفاً على حياتهم. قرى كاملة أصبحت فارغة واذا ما استمرينا هكذا- وبالطبع سنستمر مع ازدياد قوتنا (العسكرية) المجهزة- فستخلو عشرات القرى من سكانها. هذه المرة، حتى المتأملين سيتذوقون طعم اللجوء”.

لاجئي الحرب لا يتحولون لشعب لاجىء لمجرد حقيقة هروبهم من مناطق الكارثة، فهكذا يتصرف معظم بني البشر خلال الحروبات، وبالتأكيد خلال الحرب التي تستقصد المجتمع المدني. لهذا فقد أصبح السؤال الحاسم- عدا عن سؤال الطرد المنظم- كيف يضمنوا بأن يبقى هؤلاء لاجئين، بأن يتحول الفرار اللحظي للجوء لا عودة منه. من جهة فايتس والقيادة الصهيونية، حمل هذا السؤال تحدي إضافي: تغيير نهائي، لا رجوع فيه، لعلاقات الملكية- تحويل الفرار المؤقت لسلب دائم. اجابة فايتس كانت بسيطة وقاطعة: منع اللاجئين من العودة، والقيام بكل ما يمكن لإخلاء غيرهم- وتوطين أراضيهم على الفور. لم يكن لديه أي تردد بهذه الأسئلة: هو تساءل فقط، بينه وبين نفسه، إن كان لدى “الكيرن كييمت” والمؤسسات الصهيونية ما يكفي من الموارد الاقتصادية والسكان للاستيطان بالقرى المهجورة.

“نأسف- قمنا ببيع الأراضي”!

في نيسان 1948، حوالي شهرين بعد محادثاته المذكورة مع بن غوريون، بدأ فايتس باستيعاب الوضع الجديد. خلال حديثه مع أصدقاء مختلفين في القيادة الصهيونية بدأ يطرح مسألة “اخلاء العرب”، حتى قامت “لجنة الترانسفر” من أجل  “تحويل هروب العرب إلى أمر واقع”. في المقابل، يقوم فايتس باستخدام “الكيرن كييمت” نفسها لطرد من بقوا، ومن ثم يرسل الجرافات لهدم القرى المهجورة. في أيار 1948، أصبحت المسألة التي يناقشها فايتس مع بن غوريون هي ما العمل بالأراضي الفلسطينية. في مثل هذه المحادثات الداخلية، التي لا تسجل بالبروتوكولات كما جرت العادة، يتحدث الاثنان بصراحة دون أي محاولة لتجميل الأمور. بن غوريون يفكر مع فايتس بصوت عالي، يبحث عن المعادلة فيتساءل: “هل نسرق الأرض؟”، الجواب مدفون في السؤال. “على ما يبدو فقد نسي بن غوريون”، يضيف فايتس، “ماذا قال قبل فترة، بأنه سيحتل الأرض بالحرب”. سيتم بعد ذلك إيجاد المعادلة: الدولة ستقوم بالسرقة حقاً، لتبيع الأراضي التي سرقتها “للكيرن كييمت” في إطار ما سمي ب”صفقة المليون”، الأولى والثانية، ولتدعي بأن أراضي اللاجئين ليست بين يديها. نأسف- قمنا ببيع الأراضي “للكيرن كييمت”.

في أيار 1948، يفهم يوسف فايتس بأن الوضع تغير من أساسه: “هناك مصطلحات ستتغير وفرضيات ستقوض”. “افتداء الأراضي” سيتم منذ الآن ليس من قبل “الكيرن كييمت” والمؤسسات الصهيونية بل من قبل الدولة. ذلك “بطريقة لم نتوقعها: هروب العرب سيجلب ثورة كاملة بمجال الأراضي، لأنهم لن يعودوا، وأراضيهم ستبقى بلا ملاكين وسيكون بإمكان الدولة مصادرتها.” هذا كان تقسيم الوظائف الجديد اذاً: الدولة تصادر (تسرق، اذا ما أردنا إستخدام الكلمات التي استخدمها بن غوريون وفايتس في محادثاتهم) بينما “الكيرن كييمت” وبقية مؤسسات الإستيطان تعنى بالتوطين (وهنا وهناك، في الهوامش والأماكن الصعبة، تشتري الأراضي أيضاً بطرق مختلفة). هذا التحول جرى خلال المناقشات التي جرت حول مستقبل أراضي النقب، ذلك قبل أشهر من إحتلاله بيد الجيش…

في كانون أول 1948 كانت الأمور قد وضحت. فايتس أراد بأن تشتري “الكيرن كييمت” بعض الأراضي من العرب- وبن غوريون منع ذلك. من الآن فصاعداً، قال، “الكيرن كييمت” ستشتري الأرض فقط من الدولة. ومن أين للدولة الأراضي؟ وكيف ستستطيع أصلاُ بيع أراضي ليست لها؟ بن غوريون يتهرب من الجواب المباشر ويقول فقط بأن “الحكومة، الدولة، قادرة على كل شيء”. هل ستترك دولة إسرائيل بعض الأرض للاجئين اللذين سيعودوا؟، بن غوريون يجيب بشكل واضح: “لا، على طول الحدود وفي كل قرية سنأخذ كل شيء، وفق احتياجات الاستيطان. أما العرب فلن نرجعهم”.

وهذا ما حصل. الدولة ما زالت تقوم بذلك في أيامنا هذه. هي تعمل وفق مبادئ بسيطة صيغت منذ 1904 من قبل مربي ومعلم فايتس- مناحيم اوسشكين الذي ترأس “الكيرن كييمت”. المهمة الأساسية للحركة الصهيونية، باعتقاد اوسشكين، كانت الحصول على “حق ملكية” على أرض البلاد لكي تكون “دولة إسرائيل يهودية”. كيف نحصل على ملكية الأرض؟ “فقط بواحدة من ثلاثة طرق: بالقوة- عن طريق الاحتلال بالحرب، بكلمات أخرى سرقة الأرض من أصحابها: الشراء بشكل قسري، أي مصادرة الممتلكات عن طريق الحكومة: والشراء بموافقة أصحاب الأرض”.

أي من هذه الطرق ممكنة من جهتنا، نحن الصهيونيون، تساءل اوسشكين. “لا نستطيع”، كتب عام 1904، “شراء الأراضي بقوة السلاح، فليست لدينا القوة الكافية لذلك”. لهذا، تبقى لدينا الطريقة الثانية والثالثة- المصادرة والشراء. لا توجد هنا مبادئ بل فقط ظروف متغيرة وإمكانيات كانت متاحة أمام الحركة الصهيونية: بعد 1948، كان بالإمكان الانتقال من شراء الأراضي للطريقة الأولى والثانية التي أِشار اليها اوسشكين- للاحتلال العسكري والسرقة المنظمة بقوة الدولة.

---------------------

غادي الغازي, مؤرخ وناشط اجتماعي، عضو في حركة “ترابط”.
*نشر المقال بموقع اللسعة باللغة العبرية بتاريخ 07.11.13، ونعيد نشره بالعربية بمناسبة مسيرة العودة التي من المفترض بأن تتم على أراضي النقب بيوم 12.05.16