في حزيران 1936، اعتلى القسّ البروتستانتي الهولندي باستيان يان آدر دراجته الهوائيّة وشرع في رحلة إلى الأرض المقدسة، مهمة جريئة في تلك الفترة. إن روح المغامرة أسدلت بركتها عليه وعلى عقيلته يوهانه عندما شعرا بواجب توفير ملجأ ليهود من بلدهم خلال المحرقة، في البداية في منزلهم فقط، ثم في أماكن أخرى. القسّ آدر أنشأ وأدار شبكة نجحت في إنقاذ "ما مجموعه ..... بين 200 إلى 300 إنسان خلال الحرب"، كما جاء في بحث "يد ڤَـشِم". هذا العدد كان يمكن أن يكون مضاعفًا لو أنه نجح في خطته لتحرير معتقلي المعسكر الانتقالي "ڤِستربورك" سيّء الذكر، والذي احتجز فيه يهود هولنديون في طريقهم إلى معسكرات الموت. لم يتمّ له الأمر بسبب اعتقاله في تموز 1944. وفي 20 تشرين الثاني 1944 تم إعدامه بيد النازيّين. باستيان يان آدر كان عمره 34 عامًا حين مات، وترك وراءه زوجة وولدين.

بفضل هذا الماضي المشترك نشأت علاقة مميزة بين عائلته وبين الناجين وسلالاتهم، والذين عدد منهم هاجروا إلى البلاد.

في أعقاب دعوتها، زارت يوهانه آدر إسرائيل عام 1964، وكررت الزيارة عام 1967، وحينها شرّفت بحضورها حفل غرس أشجار في "جادّة الصالحين من أمم العالم" في "يد ڤَـشِم" وطقس إزاحة الستار عن حجر لتخليد الذكرى قرب كيبوتس "هلامد هـِ" في غابة غرسها الكيرن كييمت (الصندوق القومي اليهوي). ناجون ممتنّون تبرعوا بـ 1100 شجرة تم زرعها على اسم زوجها المرحوم.

إن الخبر بأن زوجته ولدت له ولدًا ثانيًا وأن الوالدة والمولود بخير لم يصل إلى آذان القسّ آدر في زنزانة سجنه. عام 1966، قرر ذاك الابن أن يزور إسرائيل، ولكنه بدلًا من أن يطير بالطائرة ارتآى أن يحذو حذو أبيه. قراره بأن يسافر إلى إسرائيل عبر البرّ بواسطة سفريات مجانيّة أخذه إلى ثلاث دول عربية. خلال ذلك التقى بالطبع مع أشخاص كانوا قد عاشوا في فلسطين حتى 18 عامًا قبلئذً، ولكنهم منعوا من العودة إلى بيوتهم. وقد اكتشف أن مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" نصفها فقط صحيح.

مرشد من طرف الكيرن كييمت رافقه في زيارة قصيرة إلى الأشجار التي غرست على اسم والده. ظهرت أمام أعيننا أشجار صنوبر صغيرة وغضّة على منحدر وعر. قالوا له أنها غرست حتى تجعل الصحراء مزهرة. لم ينتبه أن تحت الأشجار الطريّة كانت آثار مدرجات زراعية. لم يسأل ماذا كان هناك قبل ذلك. ومع ذلك فقد أدهشته نقطة الانطلاق بأن تاريخ البلاد إمّا انه بدأ قبل 1900 سنة أو أنه بدأ عام 1948. وعندما سأل عن التاريخ الذي سبق 1948 فقد واجه جهلًا وعدم مبالاة وعصبيّة من طرف مضيّفيه، حتى اللطفاء منهم. وقد برز أمام عينيه عدم اكتراثهم بالدول التي مرّ بها في طريقه الى البلاد وكأنه طار مباشرة من هولندا. 

عاد إلى إسرائيل في 2004 وفي 2005. زار "نتيـڤ هلامد هـِ" ثانية وهذه المرة لم يتعجّل. اكتشف قرب المكان أشجار زيتون عمرها مئات السنين. وفي نظرة عن كثب انكشفت شواهد إضافيّة لاستيطان سابق، من ضمنها مدرجات زراعية. عندما سأل عن ذلك في الكيبوتس لم يستطع أحد أن يقول له ماذا كان هناك قبل أكتوبر 1948. ولكنهم اختاروا القول إن قرية يهودية اسمها "بيت نتيـڤ " كانت بالموقع منذ أيام التوراة. 

عندما سأل في الكيرن كييمت لم يتلقَّ أي جواب. بمساعدة جمعية "زوخروت" اكتشف أن قرية كانت هناك اسمها بيت نتيف. زوخروت وآخرون ساعدوه ليجد عددًا من اللاجئين الذين اضطروا للهرب من القرية عام 1948. "الهرب" هي كلمة غير مناسبة: ج.د.إ طردهم. هم يسكنون الآن في مخيم للاجئين قرب بيت لحم. فقام بإجراء مقابلة مع أحدهم في 2010 واكتشف أن بعضهم، بعد حرب حزيران 1967، استغلّ الفرصة لزيارة قريتهم القديمة، ووجدوا ثلاثة من حيطان منزلهم وجزءًا من السقف ما زالت موجودة في مكانها. ثم استراحوا تحت شجرة الخروب. لم يمر وقت طويل وجاءت جرافات ودمّرت ما تبقى من بيوت قرية بيت نتيف، وحطمت بذلك ما تبقى من وهم السماح للاجئين بالعودة إلى بيوتهم وأراضيهم.

لا شكّ أن تلك الأشجار قد تم التبرع بها بنوايا طيبة. ولا شكّ أن نوايا أرملة القسّ آدر كانت طيّبة حينما أزاحت الستار عن الحجر لذكراه. لكن الواقع هو أن هذه الأشجار قد غرست بهدف محو آثار حياة سابقة وليس لكي تجعل الصحراء مزهرة – إنما لكي تغطي وتستتّر على ظلم فظيع.

لا يمكن أن نسأل القسّ آدر كيف كان سيشعر إزاء رؤية اسمه مربوطًا مع هذا الظلم، ولكن ليس من الصعب التخمين ماذا كان ضميره سيصرخ.

بالقرب من ذلك المكان يوجد نصب تذكاريّ ضخم لـ 35 من مقاتلي "هَهَـچـناه" الذين سقطوا في طريقهم لمساندة الكيبوتسات في غوش عتصيون في يناير 1948. أحد القتلى في چـوش عتصيون في أيار 1948 كان زوجًا شابًّا لإحدى النساء المَدينات بحياتهنّ للقسّ آدر، والتي هاجرت إلى البلاد. لا يمكن تجاهل معاناة الشعب اليهودي قبل 1948، ولا معاناة اليهود في إسرائيل قبل وبعد "حرب الاستقلال". لكن من الواجب علينا أن نفتح أعيننا نحو معاناة الفلسطينيين، في سنوات الـ 30، خلال ومنذ النكبة، وتحت الاحتلال القاسي على مدى جيلين منذ 1967. هم، كما أحسن وصفهم بنيامين بيت-هلحمي، ضحايا "الخطيئة الأصليّة": تهجير شعب كامل وتنكيل متواصل به، أمام أعيننا، وفي هذه اللحظات.

حلّ عادل ودائم بين الشعوب لا يُرى في الأفق. لكن خطوة أولى نحوه يجب أت تكون اعتراف كل طرف بمعاناة الآخر، والعفو عن أفعاله. أعمال الصندوق القومي اليهودي تهدف إلى جعل ذلك مستحيلًا. فهو مستمرّ بدوره الفعال في تهجير الفلسطينيين. إن ربط اسم القسّ آدر في هذه الأفعال هو عمل مشين.

ينبغي امتداح زوخروت على موقفها الشجاع في مواجهة هذا النسيان الجماعي المفروض على المجتمع الإسرائيلي لأسباب سياسية ظلاميّة.

(تنويه: النصّ أعلاه يعبر عن رأي كاتبه فقط)