كأولاد في الكيبوتس، كان بيت الشيخ في "تسورعه القديمة" مقصدًا للرحلات والنّزهات. منذ الصغر كنّا نذهب للنزهة هناك وخاصة في العُطلات، جولة على الأقدام لمدّة ساعتين تقريبًا، نسمع في الموقع قصصًا من الأعضاء الأوائل عن تأسيس الكيبوتس، وعن بيت الشيخ الذي كان غرفة طعام الكيبوتس، وغيرها.

كنت بحاجة إلى سنين عديدة حتى أبدأ بطرح الأسئلة. قبل أربع سنوات، كما في كل شهر كانون أول، عندما يأتي موعد "عيد الكيبوتس" تجمّع أعضاء كيبوتس تسورعه على الجبل عند نقطة تأسيس تسورعه، الا وهي بيت الشيخ من صرعة. إيلانه قرأت قصيدة كانت قد ألّفتها على شرف الكوخ الأول الذي أُنزل من الجبل إلى الموقع الجديد في السهل ولكنه انهار في نفس السنة، إليشع- أوّل أمين عامّ للكيبوتس أطربنا بعزفه على آلة الهرمونيكا، وُزّعت التضييفات وامتلأ الجو سرورًا. 

جلست بجانب عليزه، وهي من أوائل الأعضاء، وحدّثتها عن شريط صور لقرية صرعة قد تلقيته الآن من عُمري، ابن المصوّر القديم بن تسيون. بالنسبة إليّ كانت هذه الصور أمرًا جديدًا. لم أفهم حتى ذلك الحين أنّ قرية كاملة كانت قائمة حقًّا هناك على الجبل المتاخم للكيبوتس، عامرة بعلامات حياة قد بقيت فيها، لم يُحكَ لي عنها أبدًا. حُكي فقط عن بيت الشيخ الذي كان مثل "بيت من الأساطير" لا صلة له ببشر حقيقيين. سألتُ عليزة إن كانت لها ذكريات من القرية، فتذكّرتْ فورًا كيف كانوا يحرسون خلال الليالي في القرية حتى يمنعوا عودة لاجئين فلسطينيين إليها، وكم كانت تخاف، ثم تحدّثت عن حادثة إطلاق نار على شاب فلسطيني وُجِد جريحًا في الصباح عند أطراف صرعة قرب مباني الكيبوتس. 

في الأيام التالية كنت منفعلًا، أدركت لأول مرّة أن قُدامَى الكيبوتس امتنعوا على مدى سنوات من أن يحكوا لنا كأولاد عن القرية الفلسطينية وعن أهلها. شاركت أصدقاء لي بالمعلومات وتحدثت مع آخرين، تواصلت على الفيس بوك مع يجئال، عضو في الكيبوتس يعيش حاليّا في نيو يورك. 

خلال المحادثة انتبهنا إلى النقص الشديد في معلوماتنا حول ما حصل للاجئين الذين طُردوا من صرعة وحول تاريخ المكان. كما أدركنا مدى التشويه الذي صُنع من قبل الطرف "المنتصر" في الحرب للرواية التاريخية للمكان إذ عُرض كمكان تراثيّ صهيونيّ فقط، بما في ذلك دمج قصص لهذه الرواية لم تحدث في المكان أبدًا.

قال يجئال:" يجب توثيق ذلك". دعوت يجئال ليكون شريكًا لي وبدأنا المشوار. وافق غالبية أعضاء الكيبوتس القدامى على لقائنا وتصويرهم. عدد قليل من مؤسسي الكيبوتس ما زال على قيد الحياة ، حوالي عشرة فقط، ومعظم هؤلاء ليسوا بصحة جيدة، وكلهم تفوق أعمارهم الـ 84 عامًا، ووجد بعضهم صعوبة في تذكّر القرية العربية، والتي يبدو أنهم لم يرغبوا أصلًا في تذكّرها. حسب شهادات معظمهم، وقد كانوا حينذاك أولادًا صغارًا (بعمر 18-19 سنة)وقد أنهوا للتوّ حربًا صعبة تضمّنت فقدان عدد من أصدقائهم، فشغلوا أنفسهم في التأهيل والبناء لشيء جديد ولم يسألوا أصلًا أسئلة عمّن كان هناك قبلهم.

وصلوا إلى صرعة بعد أربعة أشهر ونصف من احتلال المكان، لم يُبلّغوا بشيء عمّا حصل في قرية صرعة وهم من جانبهم لم يسألوا. كانت القرية كل الوقت أمام أعينهم على التلّ القريب، عاشوا في بيت الشيخ الذي تحوّل إلى غرفة طعام، أُمروا بالحراسة ومنع عودة لاجئين إلى المكان، ورغم ذلك ورغم أنهم واجهوا لاجئين خلال الحراسة في الليل ورغم أنهم أطلقوا النار على لاجئين ليمنعوا عودتهم، لم يسألوا أسئلة. حتى بعد أن قُتل صديقهم يوحنان الراعي بيد لاجئين فلسطينيين عادوا ليستردّوا قطيع الماعز التابع لهم والذي صودر من قبل جنود إسرائيليين وأودعوه في الكيبوتس، لم يسألوا أسئلة، دفنوا الراعي واستمروا في حياتهم دون أن يسألوا عمّا ينتظرهم لاحقًا.             
   
بعد سنة ونصف انتقل الكيبوتس إلى مكان آخر في السهل على بعد خمسة كيلومترات عن صرعة، ولكن الأسئلة ظلّت مفتوحة. 
بالمقابل تواصلت مع لاجئين من صرعة بمساعدة عمر من جمعية "زوخروت". بالنسبة إليّ كان هذا اللقاء هامًّا جدًا. حظيت بمقابلة مباشرة مع أشخاص يقع على الكيبوتس الذي أسكنه نصيب كبير من الظلم الرهيب الذي ألمّ بهم. هذه فرصة للوقوف أمام الضحايا دون أن أقدر على تجاهُل الظلم الذي ظُلموا.  هذه لقاءات غير سهلة للاجئين لأنهم في لقائي يلتقون مع "المحتلّ". أنا ابن المكان الذي استولى على قريتهم ومنع عودتهم إلى بيتهم.

أرغب من خلال الفيلم والجولة التي نظمتها مع زوخروت أن أخلق حيّزًا لنقاش حقيقيّ حول أحداث الماضي لأمكّن أشخاصًا من الطرفين أن يتحاوروا رغم الصعوبة. أريد أن أخوض في فحوى مفهوم العودة، وكيف يمكن أن تنعكس عندما نتحدّث عن لاجئي صرعة. أريد لنفسي ولأصدقائي أن نواجه واقعًا قمعناه سنين عديدة.