سليم كامل فهد سليم شريح

قصّةُ خروجنا من ترشيحا 2014, Oct
ترشيحا

لا بدّ لي قبل سرد ما أذكره من قصّة خروجنا من ترشيحا ، وكان عمري 9 سنوات في ذلك الحين ، أن أشير إلى أنّ حماية ترشيحا والدّفاع عنها كان منوطاً بفرقة من الجيش العراقي بقيادة العقيد مهدي صالح . في ذلك الحين ، كان مجاهدو ترشيحا يدافعون عنها ، وحالوا دون أيّ تقدّم للقوّات الصهيونيّة من جدّين نحو ترشيحا .... فجاء العقيد العراقيّ إلى المرحوم جدّي فهد شريح ، الذي كان مختاراً لترشيحا ، وطلب منه أن يتيح المجاهدون الفرصة له ولفرقته الدّفاع عن ترشيحا ... بمعنى أن يتخلّى المجاهدون عن الدّفاع هن البلدة ويتركوا الأمر للجيش العراقي .

رفض المرحوم جدّي هذه الفكرة .... وقال له "وإن سقطت ترشيحا وأنتم تدافعون عنها ؟" ، فكان جوابه "إذا سقطت بغداد ، فإن ترشيحا ستسقط" . ولا أذكر ما جرى بعد ذلك ، ولكنّ المجاهدين ، الّذين أوّل من يتبادر إلى ذهني منهم المرحومَان رشيد الشيخ يوسف (رشيد طُرْفة) والعبد محيي الدّين بخاصّة (وكانا الوحيدين اللذين كانا يمتلكان نوعاً من المدافع الرّشاشة التي كنا نسميها "Bren gun") ، لم يتوقّفوا عن الدّفاع عن ترشيحا لحظةً واحدة . أمّا جيش الإنقاذ ، بقيادة المرحوم فوزي القاوقجي ، فقد انسحب إلى لبنان دون أن يشـارك في الدفاع عن ترشيحا . على الرّغم من سقوط مدينة عكّا ، وكلّ المدن الفلسطينيّة الأخرى، مع بداية النصف الثاني من شهر أيّار/مايو 1948 ، فقد ظلّت ترشيحا تقاوم حتى يوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر ، وخاض مجاهدوها معاركَ ضاريةً ضدّ الزّحف الصهيوني على ترشيحا من اتّجاه بلدة "الكابْرِة" ، كما صدّوا كلّ الهجمات التي كانت تُشنّ من قلعة جدّين المتاخمة لترشيحا ، ناهيك عن قذائف الهاون التي كانت تُقصَف بها ترشيحا من جدّين ، التي كان مجاهدو ترشيحا يحاصرونها حصاراً محكماً ، ممّا اضطَّرّ القواتِ الصّهيونيّةَ إلى إلقاء الطعام للمحاصرين فيها بواسطة المظلاّت (براشوتات) ، وقد تمكّن المجاهدون من الاستيلاء على إحداها ، وقام كبار ترشيحا بتوزيع قماش "البراشوت" على شباب ترشيحا ليصنعوا منه قمصاناً . وإنْ نسيتُ فلن أنسى تلك السّاعات الطّوال التي كانت الطّائرات الصهيونيّة تقصف ترشيحا خلالها وفترةَ مغادرتنا ترشيحا حتى وصولنا إلى أرض الشّام . ففي اليوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر من عام 1948 ، غادرنا ترشيحا تحت وطأة القصف الشّديد من الطيران الصهيوني . قبل ذاك التاريح ، كنا نغادر بيتَنا الواقعَ في أقصى شرق ترشيحا لنحتمي من القصف في أقرب منطقة مشجّرة بالزّيتون ، حاملين معنا قليلاً من الطعام ووعاء من النحاس مليئاً بالماء ، وهو أشبه بالدّلو كنا نسميه "سطليّة" .

وبعد انتهاء كلّ غارة كنا نعود إلى المنزل . ويوم 29/10/1948 ، خرجنا ولم نعد . وإليكم الحكاية : يوم 28/10/1948 سمعنا دويَّ طائرات تلاه مباشرة أصواتُ انفجاراتٍ لم نعهدْها ، وكان أحدُها فوق منزلنا مباشرة ، في كرم كانت فيه شجرة زعرور كبيرة لامرأة عجوز اسمها "سعدة" ، ممّا دفعنا جميعاً إلى الاندفاع إلى المطبخ لنحتمي تحت "السّدّة" ("attic" وهي ما يسمّى بالشاميّة "سقيفة") ليكون فوقنا سقفان يحموننا ، وكان المرحوم والدي يقف فارداً ذراعيه أمامَنا ليحمينا وهو يقول "مَتْخَفوش يابا .... مَتْخَفوش" .

استمرّ القصفُ حوالي ربع ساعة ، ثم ابتعدت الطائرات ولم يعد يسمع دويُّها . اندفع المرحوم أخي إياد إلى نافذة "الليوان" (وهو ما نسمّيه الآن "الصالون") ليرى ما حدث ، وبدأ بصيح "يابا .... دار الهوّاري عم تنحرق" ... واندفعنا إلى النافذة .... لنرى منظراً رهيباً لن أنساه . فقد كانت دار الهوّاري ، وهي عدد من البيوت الكثيرة المتّصلة والتي تشكّل مجمّعاً سكانيّاً كبيراً ، تشتعل فيها النيران في كلّ جزء منها إثر قصفها من الطائرات . وأذكر أنّ "محمّد" ، ابن المرحومين كامل الهوّاري وسعاد علي درويش شريح ، وجد متفحّماً في حضن أمّه ... وفي هذه الغارة أصيبت المجاهدة فاطمة الهوّاري . خلال تلك الفترة ، كان شقيقي الأكبر برهان قد تطوّع في جيش الإنقاذ . وصباح اليوم التالي 29/10/1948 ، سمعنا دويّ الطائرات وهي تقترب من ترشيحا .... فما كان منّا إلاّ أنّ حملنا قليلاً من الطعام و "السّطلية" ممتلئة بالماء وخرجنا كالعادة ، على أساس أن نرجع بعد انتهاء الغارة ... ولكنّ الغارات توالت بشكل مكثّف ... وعند خروجنا من المنزل رأينا جموعاً من أهالي ترشيحا يخرجون باتّجاه "البقيعة" نحو الجبال المؤدّية إلى جنوب لبنان ، فعرفنا أنّ شيئاً قد حدث ودفع بالسكّان إلى مغادرتها .... فاتّجهنا نحو تلك الجبال .... والتقينا في الطريق بكلّ المغادرين ، وكان معنا شقيقتي الكبرى المرحومة خوجيّة ، زوجة المرحوم محمّد الميداني شريح ، الذي ظلّ في ترشيحا مع المجاهدين .

أثناء مسيرنا في الجبال متّجهين نحو جنوب لبنان ، وكان الوقت عصراً ، شاهدنا إحدى الطائرات وهي تسقط فوق ترشيحا "براميل" من المتفجّرات ، وكان المرحوم أخي إياد يعدّها .... واحد .... تنين .... تلاتة .... . وفي الطريق ، شاهدنا سيّارة جيب عسكريّة تأتي من خلفنا . ولما وصلت إلينا ، أدرك الكبار منا من بداخلها ، ووقف ابنُ عمّتي المرحوم نظمي رباح شريح في وجهها فارداً ذراعيه ، فتوقفت السيارة وكان فيها العقيد العراقي مهدي صالح ، فما كان من المرحوم نظمي إلاّ أن أخرج كلّ ما صدره من "بصاق" وبصق في وجهه .... "أخ تفوووووووووووو" وغطّى البصاقُ وجهَ ذلك الذي تعهّد بالدّفاع عن ترشيحا . تابعنا طريقنا والعطش والجوع يهدّاننا .... إلى أن وصلنا أطراف بلدة "رميش" في جنوب لبنان ، وكان أوّلَ من شاهدناه رجلاً في الخمسينات من عمره ينشل الماء من أحد الآبار ، فاندفع الكثيرون نحوه طلباً للماء .... فرفض أن يروّي عطشهم ... وتفوّه بكلمات غير مناسبة .... فتابعنا طريقنا .... وبعد لحظات لعلّه ندم ، وبدأ بصيح علينا للعودة لكي نشرب ... ولكنّ المرحوم والدي رفض رفضاً باتّاً وأوعز لكلّ من كان معنا بمتابعة السّير .... إلى أن وصلنا إلى بئر ثانية تبعد أقلّ من خمسمائة متر عن الأولى .... وكان الترحاب الملحوظ من صاحب البئر ، الذي اعتذر عن سلوك صديقه صاحب البئر الأول . وبعد أن روينا عطشَنا ، تابعنا مسيرَنا ودخلنا بلدة "رميش" ، وكانت أوّل مرّة في حياتي أرى فيها خنزيراً . لا أدري كيف عرفنا أنّ شقيقي الأكبر برهان كان في بلدة "بنت جبيل" ، التي توجّهنا من بلدة "رميش" إليها ، ربّما بسيّارة جيب أرسلها لنا برهان . ومن بنت جبيل توجّهنا إلى مدينة صور ، حيث كان للمرحوم عمّي منيب منزل يقيم فيه بحكم عمله ، وفي هذا المنزل رأيت الغزال لأوّل مرّة . ومن صور أتى قطار لشحن المواشي أقلّنا باتّجاه سورية ، فنزلنا وكثيرون ، منهم المرحوم عمّي رباح علي شريح في مدينة حماة ، ونزلنا في الجامع الكبير فيها لمدّة سبعة أبّام . وبناء على رغبة المرحومة والدتي ، التي كان لها أخت تقيم مع زوجها وأولادها في دمشق بحكم عمل المرحوم زوجها الشيخ عبد القادر الجزائلي ، الذي انتقل من محاكم عكّا إلى بعض المحاكم في دير الزّور وبعض المدن السوريّة الأخرى إلى أن استقرّوا في دمشق ، وكانوا يقطنون في حيّ السويقة في الميدان ، وهذا كلّ ما كنا نعرفه عنهم . ولذلك ، توجّهنا بالباص من مدينة حماة إلى دمشق وطلبنا إيصالنا إلى حيّ السويقة ، وبالفعل نزلنا في جامع النقشيندي في نفس الحيّ ، وكان معنا الكثرون من الأقارب ، ومنهم المرحوم محمود السّعيد (أبو حسني) وأولاده أبو كامل ومحمّد (أبو سمير) وزوجة المرحوم عمر الفوط ، الذي كان قد استُشهد في أحد معارك ترشيحا ، وغيرهم . وكان في الجامع غرف كثيرة ، شغلت كلّ عائلة غرفةً منها ... وكان يسكن في الجامع حين وصولنا عدّة عائلات من عين الزّيتون ، ومنها عائلة خطّاب ، وأذكر منهم عبد الرحمن وموسى وعارف وصادق وسعيد .... . بعد استقرارنا في جامع النقشبندي ، بدأنا رحلة البحث عن بيت خالتي المرحومة رفقة محمود القاضي .... وقد وجدناه بعد فترة ، ولن أنسى الترحاب والعناية والرّعاية التي لقيناها من المرحومة خالتي والمرحوم زوجها والمرحومين أولادها صالح وعدنان ، ومن أكبر أولادها المرحوم عبد القادر ، الذي كان يعمل في معمل السّكّر في حمص . ومن ذلك الجامع ، انطلقنا نشقّ طريقنا ونكمل دراستَنا التي أضعنا منها سنة كاملة بانتظار العودة إلى ترشيحا .... ومن ذلك الحين بدأ الحلم يكبر ويكبر ، ونحن نتحمّل ظروف الفاقة والفقر من أجل أن نتابع دراستنا . وفي النهاية ، أذكر قصّةً لن أنساها وأرويها دائماً لأحفادي . كنت في ترشيحا في الصّف الثالث عند مغادرتنا ، وفي دمشق كان عليّ أن أعيد الصّفَّ الثالث نظراً لجهلي كليّاً بشيء اسمه نحو وإعراب . وخلال العام ، الدراسي أعلنت المدرسة ، وكان مديرها المرحوم شفيق المالح ، عن رحلة إلى السّويداء ، والتّكلفة ثلاث ليرات سوريّة . فسألتُ المرحوم والدي إن كان يسمح لي بالذّهاب ، فوافق على الفور ، وفي صباح اليوم التالي أعطاني ثلاث ليرات ونصف – نصف ليرة كمصروف ، وبالفعل ذهبنا برحلة إلى السويداء ، وكان معاون الباص المرحوم فهد بلاّن ، وعدنا في المساء . وفي صباح اليوم التالي ، وقبل ذهابي إلى المدرسة ، طلبت من والدي "فرنكاً" كمصروف يوميّ كان يعطيني إيّاه (الليرة السورية 100 قرش ، والفرنك خمسة قروش) كلّ صباح ، ولكنني فوجئت بالدموع محبوسة في عينيه .... فقالت المرحومة والدتي "لقد أعطاك للرحلة كلّ ما معنا ، والآن لا يوجد مع أبيك أيّ قرش" .

كان في ذلك الحين أخي المرحوم إياد يدرس الصّفّ السابع في مدرسة ليليّة ويعمل في النهار في صيدليّة "كحّال" براتب 90 ليرة كلّ شهر ، أمّا أخي الأكبر برهان ، فقد كانت أخباره ، بحكم عمله مع فوزي القاوقجي ، مقطوعةً عنا ولا نعرف مكان تواجده .

هذا ما أذكره من قصّة خروجنا من ترشيحا ، ومن المؤكّد أنّ الذّاكرة قد خانتي في بعض التفاصيل . أخيراً ، وأقولها صادقاً ، إنه لا حلم لي ولكلّ أولادي إلاّ العودة إلى ترشيحا لتعود سهراتنا مع أبي محمّد وأخيه أبي الياس .