مصطفى هزاع دحابرة ومصطفى رباح

حطين... لا يغيبُ اسمها عن أهلها 13/05/2016
حطّين

عرب 48/ غادة أسعد تحرير : قاسم بكري

التقيتُ بالحاج مصطفى هزاع دحابرة (أبو عصام، 75 عامًا) والحاج مصطفى رباح (أبو شوقي، 78 عامًا) في بلدة حطين المهجرة، وكما في كل عامٍ يحيي أهالي بلدة حطين المهجّرة، ذكرى نكبة قريتهم المهجّرة حطين، والتي ولد آباؤهم وأمهاتهم فيها، وعاشوا طفولتهم وصباهم على أرضها وبين أشجارها وبيوتها، فارتبطوا بالمكان، من خلال شريان الحياة المتواصل بين الآباء والأولاد والأحفاد، وصار بالنسبة لهم جنّة عدن على الأرض، فعلى الرغم من كل مآسي النكبة والتهجير، التي مزّقت شملهم فإنها في يوم النكبة توحدهم وتفتح ذراعيها لاحتضانهم، فيأتونها محملين بالشوق إلى ترابها وينابيعها ومزروعاتها التي كانت تُغني المنطقة بأنواعٍ طيّبة من الزيتون والرمان والتين، وغيرها مما يزرع في الأرض.

واعتادا على زيارة حطين طوال الوقت، وفي كل زيارة يملأ الحاج أبو عصام ما استطاع أن يحمله من زجاجات معبئة بالمياه، والتي ترد من الينابيع، ولسانُ حاله يقول 'شربة مي من حطين بترد الروح'.

الحاج مصطفى مقيمٌ في دير حنا، لكن حين يقترب يوم النكبة، فإنه يقف فوق أرض الآباء والأجداد، هُناك في 'حطين' المهجّرة (قضاء طبريا)، يشعُر أنه وُلد من جديد، وأنه سيعود من هناك مشحونًا بطاقة جبارة، ومثله زوجته وأولاده وبناته وأحفاده، الذين لا يفوّتون هذا اللقاء على أرضهم الفلسطينية التي تعني لهم الكثير.

حكاية تهجير

يتحدث أبو عصام، لـ'عرب 48'، عن رحلة التهجير من حطين قائلا إنه 'كان ذلك في السادس من تموز 1948، اشتدت المعارك في حطين ولوبية، يومها كان عدد الأهالي 1480 نسمة، أما مساحة الأراضي فتجاوزت 22 ألف و700 دونم، وتتمتع الأراضي بالخصوبة، بفعل وفرة المياه الجوفية، والينابيع المنتشرة'.

وأضاف أن 'أهالي حطين شاركوا الثوار في بعض المعارك، كما تضامنت البلدات المجاورة لحطين مع أبناء القرية، وشهدت لوبية المجاورة معركة عنيفة'، و'بأم عيني شهدتُ مقتل اثنين من حطين، أحدهما أبو شكيب الحطيني، فقد أطلق الجندي النار من على ظهر المدرعة، وقبل استشهاد أبو شكيب، ردّ على الجندي اليهودي، فثأر له ولأبناء قريته، ولأنّ الحطيني صارَ شهيدًا، أتوا به على ظهر الفرس، بحضور النساء والرجال والشيوخ، الذين هللوا وكأنهم انتصروا، وغنّوا للشهيد، ومن ثم انطلقوا أفواجا وجماعات وخرجوا من حطين، حين سمعوا أنّ الطائرات تقصف البلدات المحيطة، بينها صفورية، قزان (قنابل كبيرة)، وبدأت تطالهم، فقرروا الخروج من حطين، وحين هدأت الأصوات، ظنّوا أن البلدة هدأت، وسرعان ما سمعوا عن المذابح، وبينها دير ياسين، فتجالس الشيوخ الكبار، واجتمع مختارا البلدة 'أحمد أبو راضي عزام'، من أكبر العوائل في حطين، وأحمد قاسم رباح'. وفي إحدى الجلسات بين مختاري البلدة وأهل البلدة في المراح قرّر الأكثرية أن يرحلوا. وأكدّ المختار أحمد راضي العزام، قائلاً: 'بل سنبقى هنا ونموت هنا في بيوتنا، كسائر المواطنين في البلدات العربية، ولن نرفع علم الاستسلام لليهود'. أما أبي رحمه الله، الذي يجيد القراءة والكتابة، وكان يخدم في الجيش التركي، ويجيد اللغة التركية، فقال للحضور: 'أنا مزارع، ولستُ زعيمًا، لكنني أقول وبكل ثقة، إن خرجتم من حطين، فلن تعودوا إليها أبدًا'، فاستهجن الحضور وقالوا له: 'ما هذا الكلام يا هزّاع؟!، ردّ عليهم: مَن قال إننا سنعود بعد أسبوع بالقوة، هو الذي باع 'حطين'، وأنا سأخرج معكم، لكن لن يتحقق حلمكم بالعودة'. ومن سوء حظ المختار أحمد قاسم رباح، أقام بابور زيت حديد قبل الرحيل، وأحضر العدة، لكنه لم يفرح في تحقيق مشروعه.'

ليلة الخروج من حطين

يروي أبو عصام نكبة أهالي حطين، قائلاً لـ'عرب 48'، إن 'تلك الليلة لا تغيب عن خيالي، حين قرر أهل البلدة الرحيل مشيًا على الأقدام، وفي بلدة كان فيها عدد المركبات لا تتجاوز المركبتين، بينما اعتلى آخرون الشحن، وآخرون ساروا على الأقدام نحو لبنان، بينهم شقيقتي المتزوجة، وكانت تقيم في المغار، ثم وصلت مع آخرين إلى عين الحلوة. وكانت من أصعب الليالي في حياتي، خروجنا من حطين، مشردون، نسير في الوعور، يتبعنا ضوء القمر، خرجنا من حطين مشيًا على الأقدام، وكان أكبر أشقائي (محمد، 14 عامًا)، أنا شخصيًا احتضنتُ صينية نحاس، كنتُ أعرف أنها عزيزة على والدتي، وأبي حمل شقيقي الصغير (ابنُ العامين)، وحمل أخي الكبير بينما تناوب شقيقي الآخر على حمل شقيقتي (ثلاثة أعوام)، انطلقنا في ساعات العصر متجاوزين سبانا والرباضية وصولاً إلى شرق المغار عند الساعة الثالثة من صباح اليوم التالي، وعرّجنا على شرفات المغار، فأوقفنا جندي في جيش الإنقاذ، وصرخ قائلاً، 'التجوّل ممنوع'، وكانت طبريا وحطين قد سقطتا منذ ثلاثة أشهر، بينما وقف الجندي من جيش الإنقاذ وقال لوالدي: أخاف عليكم، فقد خرج معظم سكان البلدة، وحين سألنا لماذا تريدون الإقامة هنا، ردّ والدي: 'هنا يوجد عين ماء، ولي صديق من أشقائنا الدروز، و'الصديق وقت الضيق'، كانوا يهلون علينا بمناسبة زيارة النبي شعيب، عليه السلام، ولا أظن أنهم سيرفضون استقبالنا في بيوتهم، ريثما نتدبر أمرنا. وصلنا إلى بيت أبو أحمد المغاري، طلب والدي المبيت في بيته مدة من الوقت حتى تُفرَج، فقال له المُضيف: 'تكرم يا أبو محمد، لدي بيتٌ من خشب وغرفة واسعة، تسكنون فيها، وتأكلون كما نأكُل، حتى يفرجها الله، وبقينا في المغار مدّة، ثم قررنا أن نلحق بأهلنا في لبنان، فانتقلنا إلى وادي سلامة، وتوفي أبي عام 1956، في الوقت الذي كانت فيه الحرب بين مصر وإسرائيل دائرة، كان عمر والدي 80 عامًا، وكان منشغلاً حتى آخر يوم في حياته بأخبار الحرب، وكان قلقًا على القائد الخالد جمال عبد الناصر، في أعقاب الحرب التي شاركت فيها كلٌ من اسرائيل، بريطانيا وفرنسا، خلال حرب السويس'.

هروب جيش الإنقاذ

يقول الحاج أبو عصام، ساخرًا: 'أذكر أنني وأخي كنّا نتابع حركات جيش الإنقاذ في المغار، وقد سمعنا القائد يقول لهم: 'يمينًا در'، فقام الجميع وذهبوا شمالاً، فقال لي أخي الواقف بجانبي: 'شوف هذا الجيش اللي جاي يحرر فلسطين. وكان الشاويش إبراهيم من جيش الإنقاذ يزورنا في المغار، ويشرب القهوة، وبعد ثلاثة أشهر جاءَ الشاويش السوري، فسأله أبي: هل هناك أمل بالانتصار؟ فردّ الشاويش: لا أمل. وقال لوالدي: 'إحنا الليلة بدنا نمشي، أجت أوامر إنه ننسحب لأنه اليهود بدها تفوت وما بدنا نقاوم، أنا أجيت أودعك، فإسرائيل أخذت كل البلاد، وجاء وقت المغار'، ثم صارحه برغبته بمرافقتي له، قائلاً: 'أنا ما بخلف أولاد وبدي ابنك مصطفى'، قال الأب: 'أنت تطلب المستحيل، أنا ما صدقت إني أخلف أربعة أولاد من المرة الجديدة، ما بقدر أعطيك ابني'. وغادرَ الشاويش البلاد ذليلاً.'

الهجرة من المغار إلى وادي سلامة، والاستقرار في دير حنا

وأضاف الحاج أبو عصام، أن 'ابن عمتي من دير حنا عرض على والدي الانتقال إلى بستان العائلة في وادي سلامة، قال له: 'لدينا بستان مزروع بالرمان، تعال مع العائلة وخذ (خيمة) حول الرمان، ومكثنا هناك ثلاثة أشهر، ثم عدنا إلى المغار، استأجرنا بيتًا ومكثنا فيه 16 عامًا، تعلمتُ في ابتدائية المغار، بينما برز شقيقي محمد في التعليم، منهيًا الصف السابع بامتياز، فصارَ يسد الفراغ في التعليم، حين يتغيّب المعلمون، وأذكُر أنّ المعلم فرنسيس جاءَ إلى بيتنا في المغار، وطالب والدي بأن أتابع تعليمي لأنني الأول على مستوى أبناء صفي، بكى والدي وقال أنا أيضًا أريد لابني أن يتعلّم، لكن 'العين بصيرة واليد قصيرة'، ولاحقًا اشترينا بيتا في دير حنا، كنا معزولين في البلدة، سكنا قرب المقابر، وكان بيتنا وحيدًا في عتمة الليل، ثم بدأ البناء يزداد، حتى لم تعد هناك أراضٍ كافية للسكن'.

رحيل الوالديْن وهما يتمنيان افتراش الأرض في حطين

يقول أبو عصام، إن 'أمي كانت سيّدة قويّة وامرأة عصامية، عاشت حياة رغد في حطين، حيثُ الخير والمال والخُضرة، فكانت تركب الحمار وكانت تطمئن أنّ الصناديق في الخُرج مؤمنة، تصل إلى طبريا، فتبيع ما حملته في السحاحير من خيرات الأرض، علت وخبيزة وشومر، وخضار. كانت تبيع ما تحمله للتجار، ثم تعود لأولادها وجيوبها محشوّة بالحلوى، لكنها في السنوات الأخيرة من حياتها، تعبت، حتى فقدت بصرها، من شدة حزنها على رحيل والدي، وما أصاب البلاد، ولم تسمح لها ظروفها الصحية، برؤيتي يوم زفافي'.

وتقول أم عصام، شمسة كايد دحابرة، لـ'عرب 48'، إن 'والدتي كانت تبكي باستمرار، وتحدثنا عن حطين، وكيف نزحوا إلى لبنان، حتى أنهم قالوا حين التقوا بأقاربهم في المخيمات اللبنانية: 'هذه الحِجة الثانية، إذ لم نتوقع أن نلتقيهم من جديد، وكانت والدتي تنوّح وتبكي وتتمنى لقاء أشقائها، وفي زيارة لأقاربنا القادمين من أبو ظبي، طلبوا الحصول على 'ماء من نبع حطين'، و'كيس تراب'، و'حبة زيتون'، وصلّى ابنُ الخال ركعتين شكر لله على فرصة العودة إلى البلد الذي لا يُنسى 'حطين'.

-------------

المصدر: موقع عرب 48