أحمد أبو غوش

الحب والطفولة في عمواس وبعدها 2007, Jun
عمواس

لماذا يبهرني الأفق ؟ خاصة عندما تهبط الشمس غائبة بهدوء إلى خلف سهل يبتلعها رويدا رويدا، وأعشق الهدوء الذي يخل به تغريد البلابل فجراً، وأعشق اللونين الأزرق السماوي والأخضر، وأحب الحديث عن البطولة ، وأنصت للقصص التراثية ، وأطرب حتى الخشوع لترانيم ناي، أو عود متدفقة  كالينابيع الهادئة القوية، الثائرة الساكنة ، الباردة رغم حر الشمس، الواضحة رغم الهمس، والهادرة كموج البحر،والسلسة كمجرى النهر، لماذا؟

لماذا أعتقد أن السعادة ملازمة للطفولة؟ ألأنّ الطفل حر من أية مسؤولية؟ أم لأن البراءة سمتها الأساسية؟ الطفولة، من تجربتي ، أقرب إلى الطبيعة من غير براكين، وإلى السماء من غير حر وقرس. إنها أقرب إلى مناخ فلسطين، وسهل عمواس ، وشجر الجبل الشامخ، وطعم العنب والتين. إنها الفضاء الواسع ، والأفق الممتد، والتعدد المتلون المتكون في ظل الحب، وشغف القلب. إنها قبل المسؤولية، وقبل التلوث في ظلمات الكسب، فالطفولة لا تعترف بالشرق، ولا بالغرب ، ولا بالمراتب، ولا بالمسؤولية، أو بالذنب. إنها الحرية ... الخالية من أي قيد.

كنت طفلا، وفي ليلة ربيعية لم أستطع النوم رغم تعبي الواضح. نعم ، كنا ستة، لعبنا الكرة على الجرن، ثم " الغماية "، ثم "عالي وطوط" . جعنا فتراكضنا إلى "عين العقد"، تسللنا من خلف شجرة إلى أخرى، لندخل البساتين المميزة، رغم تيقظ أبو خليل الناطور، أكلنا الحمص، والخرفيش، وقطفنا الثمر غير الناضج بعد، شربنا من النبع حتى ارتوينا. صعدنا نحو " المشاعات". توقفنا عند حافة الصخور ورجمنا بالحجارة كل ما خطر في خيالنا حتى توترت عضلات أكتافنا. مررنا على غابة الصنوبر حيث ينبت الفطر، ثم عدنا باتجاه ملعب كرة القدم المجاور لمقام "الشيخ معلـّى". تنقلنا من طرف إلى آخر، وتأملنا الأربع جهات. تمددنا في وسط الملعب وحدقنا في السماء الربيعية الهادئة. البعض كان يتحدث، أما أنا فكنت أنظر إلى حمرة دم جفني الذي تخترقه أشعة الشمس. كنت أراقب نقطة سوداء تنتقل مع بؤبؤ العين. استرحنا، فنهضنا لنهبط إلى "عين نيني" عبر شلال عميق ، كنا نبحث عن عملات قديمة لنبيعها، وجدنا قليلا منها ورميناها لأنها كانت إسلامية، فتجار الأنتيكا لا يشترونها، وصلنا إلى  العين وشربنا، ثم أكلنا، من كرمنا المجاور لها،  أغصان العنب الجديدة، وحب اللوز الأخضر. تعبنا وقررنا أخيرا أن نعود إلى بيوتنا، مررنا من وسط حارة "دار حمدة" حذرين، فالاشتباكات ظلت محتدة بيننا وبينهم فترة طويلة، لم نشاهد أحدا، فركضنا مسرعين. قرب بيتي ودعت أصدقائي ، ودخلت. أكلت ، واسترحت قليلا، ثم خرجت ثانية لأن أبي طلب مني أن أشتري له السجائر. كانت الشمس قد غابت، نزلت راكضا، فاردا  ذراعي كجناح طائرة، والغريب أنني لم أتعثر رغم الظلمة، وحفر الطريق، لأني أحفظ الطريق عن ظهر قلب. عدت أيضا راكضا، فوصلت البيت لاهثا.

كان والدي وأصدقاؤه يجلسون على الشرفة المطلة على الغرب، يستمعون إلى الأخبار، ويتسامرون وهم يضحكون بين الحين والآخر، ككل ليلة. لماذا رغم تعبي لم أستطيع النوم؟ ربما لأني منهك. تقلبت، ثم نهضت لأتمدد قرب أمي، فبدأت تمسد شعري بهدوء وهي تتحدث مع أخواتي حتى نمت.
صحوت باكرا ، لبست زي الكشافة الذي استلمناه قبل يومين، لم أركض كعادتي ، بل مشيت منتصبا كالعسكر. عدت ظهرا إلى البيت، تناولت طعام الغداء، ثم خرجت. وصلت إلى حارة " دار علي " فوجدت صحبي متجمعين، والتوتر باديا عليهم، تساءلت لماذا؟ وأسرعت لأعرف السبب. كان خليل يصرخ " لقد أخذوا  أولاد الكلبة التي ولدت في حارتنا"." سنهاجمهم " قال محمود، فوافقت كما وافق الجميع بحماس. تجمعنا أكثر من عشرة . مشينا أو ركضنا إلى حارة " دار حمدة" من جهة الشرق. نزلنا إلى حيث يتجمعون، ورميناهم بالحجارة. صرخنا عليهم وسببناهم فردوا علينا بالمثل. طاردونا فانسحبنا من خلف " دار كيلاني " إلى الحارة. توقعنا أن يهاجمونا.

أقترح خليل أن نختبئ  بين الصبر وخلفه، لنفاجئهم. كانوا يتقدمون بحذر، فانقضضنا عليهم ليولوا هاربين.

لم يطل العداء  لأننا استعدنا الجراء الصغيرة، وعدت أنا لألعب في حارتهم مرة، وفي حارة دار علي مرة أخرى لأن كرمنا يقع على طرف حارتهم الأقصى.

مرت الأيام ، وكنت أكبر ، وأغادر عمر الطفولة نحو المسؤولية تدريجيا. في سن الثالثة عشر صارت متعتي هي الصيد، في البداية بالنقافة، ثم ببندقية العصافير التي كان يجلبها صديقي الجديد محمد حسن ، من قريبه حسين شكري ( بالمناسبة حسين شكري كان مقعدا توفي تحت ردم البيت عندما هدم المحتلون عمواس). يوم الجمعة كان الأجمل بالنسبة لي لأن والدي كان يخرج فيه للصيد ويصحبني معه.  بعد ذلك صرت أسرق بندقية الصيد. أخرجها أولا من الصالة، إلى غرفة أختي المطلة على البئر والحاكورة الخلفية لأخرجها من الشباك، ثم التف من حول البيت ، وانزلها من على السور من أقصى حد لنا قرب دار أبو رسمي ، ثم أخرج راكضا من الباب لأحملها على كتفي بثقة وأتظاهر بأن والدي يسمح لي بالصيد. كنت أصعد باتجاه الجبل قرب دار سعادة، واطلق الطلقتين أو الثلاثة على العصافير، وأعود لأعيد البندقية بنفس الطريقة. خرجت مرة إلى الصيد، وكان الجو ماطرا، شاهدت شنارة ، ثبت البندقية على كتفي جيدا، وأطلقت النار فأصبتها. طرت من الفرح، ولكنني تحيرت. إذا عدت ومعي صيدي سينكشف أمري ، وإذا تركته سأتخلى عن أول صيد ثمين لي. وبعد تردد طويل قررت ربط الشنارة على خصري وحملت البندقية على كتفي وعدت إلى البيت لأدخله بهذه الهيئة. كان والدي قد عاد مبكرا بالصدفة. نظر إلي وسأل:
- هل حقا أنت من صاد الشنارة؟ قلت: نعم.
- ألم يساعدك أحد؟ قلت لا .
ابتسم ثم قال: نظف البندقية .
ونلت بذلك شرعية استخدام البندقية، بل صارت من مسؤوليتي، وصرت أتفقدها بشكل شبه يومي.


احمد ابو غوش كاتب المقال، في الصف الثالث الإبتدائي عام 1962 في عمواس

كان والدي مقاولا، ولكنه كان يحب الأرض، ويشتري مزيدا منها كلما سنحت له الإمكانيات، كان يعطي جزء منها لأصدقاء ليزرعوها بدون مقابل. وفي سنة 1967 قرر زراعة قطعة أرض كبيرة في خلة الحمّام بالكوسا، ولأن أخوَي كانا يعملان معه في البناء وينامان لأسبوع أو أكثر خارج القرية، ولأن آل أبو غوش لا يسمحون لبناتهم بالعمل الزراعي، لم يكن موجودا لمساعدته إلا أنا. الأرض والخضرة بالنسبة لي جميلة، أما زراعة الكوسا، وبالذات قطفه، فقد ملأ كفيّ في ذلك الصيف بالشوك حتى تحببتا.

في بداية نفس الصيف كان الحديث عن الحرب وتحرير ما أغتصب من فلسطين هو الطاغي، وكان عبد الناصر يهيج الناس حتى اعتقدوا أن النصر والعودة إلى أراضينا السهلية التي ندخل إليها خلسة،خوفا من الجنود الأردنيين، قاب قوسين أو أدنى . بدأت الحرب وكنت أركض ما بين البيت ودكانة حلمي، حيث كان والدي موجودا، لأنقل أغراضا اشتراها. عدت للمرة الثالثة فوجدت والدي متمددا  في الدكانة  ويرد على حلمي بأجوبة مقتضبة وهو متشائم ، على عكس الكثير من الناس. تساءلت لماذا هو حزين على غير عادته؟عدنا إلى البيت فقال سنبني ملجأ. أمضينا أكثر من ثلاث ساعات ونحن نعبئ أكياسا من التراب ونضعها على باب مغارة أمام بيتنا لننام هناك، كما اقترح والدي. نمنا في وقت متأخر، ولكنني صحوت قبل بزوغ الفجر، فقد كان هناك حركة غير عادية وهرج ومرج في بيتنا. كانوا يطلون على أضواء كشافات تتقدم نحو القرية على شكل قوس من الجهة الغربية للبلد. وكنا نسمع انفجارات قوية بين الحين والآخر، سمع أهلي أن جنود الاحتلال يدخلون إلى بيوت القرية ويطلبون منهم التجمع في ساحتها. قرر والدي نقل العائلة إلى بيت عور، وهي قرية تبعد عن قريتنا حوالي عشرة كيلومترات. قال: "سننقل النساء إلى بيت عور ثم نعود نحن الرجال إلى البلد". خرجنا عن طريق عين العقد إلى يالو، ولم نعد إلى قريتنا منذ ذلك الوقت إلا بعد تدميرها.  كان جنود الاحتلال يقفون على مفرق بيت سيرا ، مشينا من أمامهم . كانوا ينظرون إلينا بريبة، وكنا ننظر إليهم بخوف. وصلنا إلى بيت عور ونزلنا إلى عين بينها وبين بيتونيا. إسترحنا ساعة أو أكثر، فقد كنا جائعين وعطشى ومنهكين. تابعنا السير إلى بيتونيا  التي توقف جيش الإحتلال أمامها في ذلك اليوم. وصلنا رام الله، وقصدنا بيت " دار خلف" فاستضافونا في بيتهم لشهرين أو أكثر، كانوا أصدقاء للعائلة وكرماء معنا إلى أقصى حد. عرضوا على والدي مفتاح بيت لهم في وسط البلدة القديمة. لكنه رفض، لأن أصدقاء آخرين عرضوا علينا بيتا. جمع إخوتي خرقا وحرمات، وتبرع لنا أصدقاء بخزانة وبدأنا نؤسس بيتا من جديد. معظم أهل قريتنا نام في دار الأحداث أو في المسجد قبل أن يتوجه غالبيتهم إلى عمان. نهب شباب بلدنا "حسبة الخضرة" ومخازن وكالة الغوث لإطعام أهل القرية. وخلال شهرين بحثت كل عائلة تبقت في رام الله عن بيت واستقرت.

منذ تهجيرنا من عمواس ، انتهت طفولتي ، فقد عرفت الألم والمسؤولية والحزن والقهر والجوع والحرمان والعطش. أما الدرس الأهم الذي علمتني إياه هذه التجربة فهو ، أن الحياة يمكن أن تنقلب رأسا على عقب. كيف أمسينا ، ثم كيف أصبحنا ؟ لم أمارس شيئا في حياتي لاحقا إلا وذكرني بحياة الطفولة في عمواس . فأينما سكنا وفي أي زاوية جلست كنت أقارن بين سكننا الجديد وبيتنا في عمواس. أينما درست كنت أقارن بين مدرستي الجديدة ومدرسة عمواس. وكلما رأيت طفلا حزينا تذكرت ما حدث في قريتنا ، وكلما سمعت عن موت، تذكرت جثة الجندي المصري التي شاهدتها ملقاة على جانب الطريق ونحن خارجين، وتذكرت والد صديقي محمد الذي أصابته شظايا قذيفة فاستشهد. كان رجلا هادئا طيبا وودودا كما كنت أراه عندما كنت أذهب يوميا إلى بيتهم، وكنت أتخيله مدرجا بدمائه وهو ملقى على وجهه، وكلما تخيلت مشاعر صديقي عندما شاهد أباه ميتا، لم أستطع، وأصابتني غمة. وكلما رأيت حقلا ممتدا، وأشجارا باسقة تذكرت  لوزنا . وكلما أكلت حبة تين تذكرت تين كرمنا. وكلما أكلت عنبا تذكرت دالية العنب في بيتنا في أول البلد التي قطفنا عنها سنة 1966 خمسا وثلاثين صحارة عنب. وكلما أكلت حلوا تذكرت "كلاج" أمي . وكلما مرّ عيد تذكرت كيف كان له في عمواس بهجة وفرحة. وبالمناسبة أقسم أنني لم أتمتع بعيد بعد أعياد عمواس. ففي عمواس كنا ننتظر العيد لأنه يوم مميز. كنت أحصل على نقود  فأشتري ما أشتهي. وكنت وأصدقائي نشتري في اليوم الثاني للعيد ألعابا نارية ، كنا ننقسم إلى فريقين ونلعب لعبة الحرب في منطقة شبه جبلية يقسمها شارع عمواس يالو إلى قسمين. وما زلت أتذكر كيف كنا نركب الحمير، ونلعب أو نتنزه في المشاعات  أو بين أشجار الدير، ونسرق الفواكه خاصة التفاح من كروم الآخرين، وكيف كنا "نتعربش" الباص، ويطاردنا عمر نمر سائقه. نعم كان لي في عمواس طفولة ومرح وحب وبهجة حياة لم أعرفها لاحقا. لقد سافرت لاحقا إلى عمان والشام ولبنان ودولة الإمارات ومصر فعرفت معنى المتعة، ولكنني لم أتذوق ما أعتقد أنه الحب بعد رحيلنا من عمواس. وأعتقد أنني أدرك السبب الآن. لقد غادرت الطفولة أو غادرتني الطفولة منذ ذلك الحين.

----------------


أحمد حسن أبو غوش

ولد في عمواس في أكتوبر 1953 وأتم فيها دراسته الابتدائية والصف السابع في مدرسة عمواس الاعدادية. بعدها انتقل إلى عمان لمدة سنة وأنهى المرحلة الإعدادية في بيتونيا ودراسته الثانوية في رام الله. سافر إلى بيروت ودرس الاقتصاد في جامعة بيروت العربية ومن بعدها حصل على دبلوم عال في الدراسات الإسرائيلية من جامعة القدس في أبو ديس.

عمل مدرساً في دولة الإمارات العربية المتحدة لمدة ثلاث سنوات ثم عمل مع والده عامين في قطاع المقاولات حتى عام 1977 حيث اعتقلته سلطات الاحتلال لمدة اثني عشر عاماً.

يرأس منذ عام 2005 جمعية الأسرى المحررين وهذا العام هو أيضاً رئيس جمعية عمواس.

أحمد أبو غوش هو أيضاً باحث وشاعر صدر له ديوانا شعر وعدة مؤلفات ودراسات إضافية في المواضيع الاسرائيلية وشؤون القضية الفلسطينية والتنمية العربية. بالإضافة إلى نشاطات أخرى، هو اليوم صاحب شركة مقاولات في مجال البناء ويسكن في رام الله.