حين كنا في طريقنا إلى الشمال البعيد للقيام بجولة ونشاط لذكرى القرية الفلسطينية الراس الأحمر، بدأت الأخبار السيئة تتوالى من غزة. في البداية سمعنا عن 50 قتيلا نتيجة لقصف مكثّف من طائرات إسرائيلية على المدينة. ثم بدأ عدد الضحايا يرتفع بشكل مرعب. حين عدنا إلى تل أبيب في ساعات المساء الأولى، كان عدد القتلى الفلسطينيين قد وصل إلى 200.

رغبنا في ذاكرة تجسر ما بين الراس الأحمر وكيرم بن زمرا، المستوطنة الإسرائيلية التي أقيمت على أراضي هذه القرية الشمالية، فتلقينا كيًا للوعي الذي يربط الراس الأحمر وغزة في الجنوب. لاجئو الراس الأحمر يعيشون اليوم في جنوب لبنان. لقد ترك المعتدون في تشرين الأول عام 1948 الجهة الشمالية من القرية مفتوحة وآمنة من أجل دفع اللاجئين شمالا باتجاه لبنان. هكذا تم تخطيط التهجير من قبل زعماء الصهيونية. في كل عملية تهجير تقريبًا تركوا ثغرة للهرب. طردوا الفلسطينيين في الشمال أكثر شمالا (لبنان وسوريا) والفلسطينيين في المركز شرقًا (الضفة الغربية) والفلسطينيين الذين سكنوا في الجزء الجنوبي من فلسطين جنوبًا (غزة). ما يزيد عن نصف السكان في قطاع غزة اليوم هم لاجئون فلسطينيون تم طردهم من مدنهم وقراهم في بداية النكبة، وحتى بعدها. لقد تم تحميل سكان مدينة المجدل (أشكلون اليوم) مثلا، على شاحنات وطُردوا إلى غزة عام 1950. خلال جولتنا في الراس الأحمر همس لي أبو طوني، فلسطيني في السبعين من عمرة من الرملة، ومن المواظبين على جولات ذاكرات، بأنّ ابن عمه يعيش في غزّة. يوم 27.12.2008 خلال العدوان الدموي على غزة، كان ابن عمه هناك. قسم كبير من لاجئي يافا، اللد، الرملة سدود، المجدل، يبنة (يفنه، غان يفنه)، الجورة (أشكلون)، الخصاص (إيرز)، الفلوجة (كريات غات)، المسميّة ومن عشرات البلدات والقرى الفلسطينية الأخرى، يعيشون اليوم في قطاع غزة التي لا توجد فيها حتى ثغرة هرب. مليون ونصف المليون فلسطيني يعيشون داخل علبة موت.

الأخبار العاصفة من غزة لم تتلاءم مع الهدوء التام في مستوطنة كيرم بن زمرا. مجموعة تعدادها نحو 50 مشاركة ومشاركًا في الجولة، دخلت المستوطنة، حددت القرية المهدومة، وقفت إلى جانب أنقاضها التي تبعد 10 كم فقط عن أراضي دولة لبنان.

كانت الجولة مستعجلة قليلا لأنّ زعماء المستوطنة، عبر اتصال مسبق معهم، رفضوا التعاون معنا في المشروع بل طلبوا ألا ننفذ النشاط. أصدرنا كتيّبًا خاصًا للنشاط، يحتوي على شهادات لاجئي القرية وشهادة لأحد أوائل سكان مستوطنة كيرم بن زمرا. قدّمناها لعدد من السكّان وأبقينا العديد منها في المستوطنة. لم يشاركنا الجولة في الراس الأحمر أيّ من لاجئي القرية لأنّهم جميعًا في لبنان. لكن كانت معنا صور كبيرة، بحجم الإنسان، للاجئين يعيشون في عين الحلوة وصيدا (صوّرها تيري برسيلون). وضعنا الصور بجانب مبنى القرية، التي لم نتمكّن من دخولها، سمعنا شرحًا قصيرًا وصوّرنا النشاط. هذه الصور قد تصل إلى اللاجئين الذين سينفعلون بمجرّد إحضارهم إلى قريتهم، حتى لو بصور جامدة.

بعد الزيارة القصيرة في الراس الأحمر، توجّهنا إلى قرية الجشّ المجاورة، لنعرض في مركز القرية الجماهيري فيلمًا قصيرًا عن الراس الأحمر، التحدّث عن مشروع "ذاكرة جاسرة"، وربط قصة نكبة الراس الأحمر بقصة نكبة كفر برعم. وقد حكت نادرة زهرة، لاجئة من قرية كفر برعم، قصّتها المأساوية عن قريتها. فالواقع يربط قصص النكبة بشكل أقوى ويحولها إلى حدث مأساوي بدأ عام 1948 ولا يزال مستمرًا. يعيش لاجئو الراس الأحمر في مخيمات اللاجئين في لبنان، ولا زالوا غير قادرين على العودة إلى قريتهم، لاجئو كفر برعم مشتّتون في العالم كلّه، قسم منهم داخل حدود دولة إسرائيل، وهناك قرار محكمة مزعوم لصالحهم يسمح بعودتهم بموافقة الجيش، لكنهم لا يزالون لاجئين ولا يمكنهم العودة إلى قريتهم. في الوقت نفسه، يتصرّف الجيش الإسرائيلي بوحشيّة ضد اللاجئين في قطاع غزّة.

"ذاكرة جاسرة" بدأت كفكرة متفائلة وانتهت بخيبة أمل بسبب عدم استعداد الإسرائيليين لأن يكونوا شركاء في التفكير باللاجئين الفلسطينيين الذين تتحمل دولة إسرائيل المسؤولية عن مأساتهم، والذين يعيش اليوم سكان إسرائيليون على أرضهم وحتى داخل بيوتهم. دولة إسرائيل تواصل ملاحقة الفلسطينيين منذ 1948 وحتى اليوم. الطرق متعدّدة لكن النتيجة واحدة. تواصل للّجوء وتواصل للغبن، حتى كتابة هذه السطور.

 

 

 

قرية/مدينة: