تعني كلمة "نكبة" بالعربية: الكارثة الكبرى. وفي السياق الفلسطيني، يتعلق هذا المصطلح بسيرورة متواصلة لنهب أراضي وأملاك الشعب الفلسطيني وحرمانه منه. بدأت هذه العملية قبل سنة 1948، مع بدء التطلعات الصهيونية إلى الاستيلاء على أكبر كمية من الأراضي لاستخدام اليهود الحصري، وقد جرى الأمر في بعض الأحيان مترافقا مع طرد فلاحين من مكان سكنهم وأخذ مصدر رزقهم. وهكذا، ومن بداية فترة الاستيطان الصهيوني وحتى سنة 1948، تم هدم 57 قرية فلسطينية وتهجير سكانها. وقد مثّلت حرب 1948 قمّة هذه العملية: فإلى جانب فظائع الحرب والمجازر، والاغتصاب والنهب، مثّلت النكبة هدم أكثر من 500 بلدة وقرية وتحويل أكثر من 750 ألف رجل وامرأة  إلى لاجئين. وهذا الرقم يعني نحو 85% من السكّان الفلسطينيين الذين كانوا يقطنون في الأرض التي أقيمت عليها دولة إسرائيل.

أثناء الحرب أيضا، أصدرت الحكومة الإسرائيلية قرارها بمنع عودة مئات آلاف الفلسطينيين الذين تم دفعهم إلى الهرب خشية من المعارك، أو تم طردهم بصورة منظمة ومخطط لها. إن منع العودة هو أمر يتعارض والقانون الدولي، والأخلاقيات الإنسانية، فالمدنيون يبحثون عن ملجأ مؤقت أثناء الكوارث والحروب، واضعين في نيّـهم العودة إلى منازلهم مع انقشاع غبار المعارك.

النكبة، إذا، مستمرة حتى اليوم، أولا من خلال منع العودة، وثانيا مع استمرار عمليات النهب والقمع تجاه الشعب الفلسطيني بوسائل مختلفة: تفريق الشعب الفلسطيني إلى وحدات منفصلة تحمل كل منها منزلة قانونية مختلفة (لاجئون، أولئك الذين يحكمهم الاحتلال العسكري في الضفة الغربية، وسكان غزة المحاصرة، والفلسطينيون الذين ظلوا على أراضي الدولة التي أصبحت إسرائيل، ومن ضمن هؤلاء من تم تهجيرهم داخليا، وسكان القدس) مصادرة جميع الأملاك الفلسطينية (ملايين الدونمات من الأراضي، والمنازل، والمصانع، والمركبات، وحسابات البنوك، ومحتويات المنازل، والكتب، وكل ما تطاله اليد)، واستخدام القوة العسكرية، وأوامر الاعتقال الإداري، وفرض القيود على التنقل، والتمييز في مجال الأراضي، والتخطيط، والمسكن، وغير ذلك.

في حين أن الكثير من اليهود لا يعرفون بالمطلق مصطلح نكبة، وخلفيتها التاريخية ومغازيها، فإن النكبة بالنسبة للفلسطينيين تعني أساسا مركزيا في الهويتين الفردية والجمعية. ورغم ذلك، فإن النكبة أيضا تقوم ببناء هوية المجتمع الإسرائيلي، والواقع الذي نعيش فيه. نحن لا نسعى إلى طرح "رواية فلسطينية" قبالة "رواية صهيونية" بل توفير المجال أمام الجمهور للوصول إلى معلومات تاريخية، ووقائع ومعطيات، غير معروفة للجمهور اليهودي في إسرائيل، وهي معلومات ومواد مخفية ويتم نفيها بصورة رسمية وممؤسسة، من جانب دولة إسرائيل.

نحن، فلسطينيون ويهودا، نشعر بالانتماء إلى هذه الأرض: إلى أهلها الذين هنا، وأولئك الذين لم يعودوا موجودين فيها، إلى اللغة والثقافة، إلى المنازل، إلى الأودية وأشجار الزيتون، إلى التاريخ القريب والبعيد، ونعم: إلى النكبة أيضا. إن النكبة، الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني تعدّ جزءا لا يتجزّأ من قصتنا وقصص عائلاتنا وشعبنا. إن معرفة النكبة هي أيضا تعرّف أفضل بالمجتمع اليهودي في إسرائيل. لا شجاعة، بالمطلق، في دفن الرأس في الرمل. إن إخفاء الماضي الفلسطيني هو بالمقدار ذاته إخفاء لماضي وحاضر دولة إسرائيل أيضا. إن النكبة، عمليا، قائمة في المشهد، قائمة في القضاء، وفي السياسة، وفي الذكريات والآمال ومجمل الحياة اليومية في هذه البلد.

إن وجود دولة مقتصرة بشكل حصري على اليهود، لا الفلسطينيين، هو، لربما، حلم بعض من يسكنون هنا، لكن هذا الحلم غير أخلاقي، وقد آن الأوان للاعتراف،  رغما عن جهود النهب المستمرة منذ سنوات طويلة، بأنّ هذا الحلم غير ممكن التحقق أصلا. إن العلاقات المستندة إلى انعدام المساواة البنيوية هي أمر سيئ لجميع الأطراف، بعد قرابة المائة عام من أيدلوجيا الفصل والحصرية، العنصرية والعسكريتارية، بات من السهل رؤية أن الكارثة الفلسطينية هي بنفس المقدار كارثة لليهود.

إن تاريخ العلاقة اليهودية بأرض إسرائيل وبالحياة المشتركة بين اليهود والعرب وغيرهم، أطول من تاريخ الأيدلوجية الصهيونية الأوروبية. لقد شهدت الأيدلوجية الصهيونية، منذ بداياتها، معارضة يهودية. إن هذا التاريخ هو، أيضا، جزء من تاريخنا: تاريخ اليهود السفارديم، والشرقيين، والأشكناز، العلمانيين والمتدينين، النساء والرجال، الذين عارضوا نظرة التفوق اليهودية، وعارضوا ممارسات الفصل والنهب، واختاروا العدالة والمساواة.

بادئا ذي بدء، من المهم أن نتذكر بأن الاستيطان الصهيوني في البلاد منذ بداياته سعى إلى تحويل القدر الأكبر من الأراضي لليهود بشكل حصري. وحتى لو لم يتفق جميع المنظّرين الصهاينة وأصحاب القرار منهم على هذا التفسير، فهذه هي الأيدلوجية التي تم تطبيقها فعلا. لقد تم تهجير 57 قرية فلسطينية وفقد الآلاف مصادر رزقهم بسبب أيدلوجية "العمل العربي" قبل سنة 1948. لم تبدأ المقاومة الفلسطينية المنظمة إلا بعد وعد بلفور، الذي منح اليهود، كما هو معروف، الحق في إنشاء وطن قومي رغم أنّ نسبة اليهود آنذاك لم تتعد الـ 10% من سكان البلاد، حيث تجاهل هذا الوعد تماما السكان الفلسطينيين.

ثانيا: لكل إنسان الحق في العيش بأمان في منزله وطنه. إن موافقة الإنسان أو رفضه لتقسيم بلاده ما هي إلا رأي سياسي، لا علاقة له بحقوقه الأساسية. ومع ذلك، فإن هنالك قيمة للتعرف إلى الأسباب الرئيسية لرفض الفلسطينيين لاقتراح التقسيم من قبل الأمم المتحدة. ووفقا لهذا المقترح، تعيّن على الدولة اليهودية أن تمتد على 55 في المائة من الأرض، رغم أن اليهود شكّلوا فقط ثلث سكان البلاد، وقد كانت غالبيتهم من المهاجرين الذين قدموا إلى البلاد منذ وقت ليس ببعيد، كما أن أقل من 10% من مجمل الأراضي كانت ملكا لليهود. إلى جانب ذلك، كان من المفترض أن يشكل الفلسطينيون في الدولة اليهودية نصف تعداد سكانها تقريبا. إن قرار التقسيم لم يكن غير منصف فحسب، لكن هذا المخطط قد أثار مخاوف حقيقية من أن قبوله سيؤدي إلى تهجير المواطنين العرب من الدولة. وعلاوة على ذلك، ولأن الفلسطينيون قد كانوا عمليا غالبية عظمى من ضمن سكان فلسطين الانتدابية، فقد رأوا في مقترح التقسيم محاولة من جانب الأقلية اليهودية لفرض رأيها على الأغلبية. وإلى جانب ما تقدم، فإن هنالك أحيانا ميلا لنسيان أن الكثيرين من الجمهور اليهودي قد رفضوا مقترح التقسيم (التصحيحيون)، أو رأوا فيه مجرد مرحلة انتقالية (مباي) نحو احتلال البلاد بأكملها وطرد جميع سكانها من الفلسطينيين.

إلى جانب ما ذكرناه، فإن حجم القوات العسكرية لا يمثل حالة دفاع يهودية في وجه هجوم عربي، بحسب محاولات ترسيخ الأسطورة القائلة بوجود "قلّة ضد كثرة": ففي نهاية سنة 1947 كان لدى الييشوف اليهودي قوة عسكرية منظمة قوامها نحو 40 ألف مقاتل، وقف في وجههم نحو 10 آلاف مقاتل هم من القوات الفلسطينية غير النظامية وغير الموحدة، إلى جانب متطوعين من البلدان العربية، غالبيتهم بلا خبرة عسكرية. وحتى في آيار (مايو) 1948، عندما اتسعت الحرب وانخرطت فيها الجيوش العربية، كان لإسرائيل تفوق بلغ الضعفين، وقد تمتعت بموارد أكثر ومعدات قتالية أفضل.

وثالثا، إنّ النكبة المستمرة ما هي، في نهاية المطاف، سوى نتاج الخطوة العسكرية التي تجاهلت مقترح التقسيم، وهي الخطوة التي مارست هجمات وعمليات احتلال وراء خطوط خطة التقسيم نفسها، وهي أيضا نتاج الحسم السياسي لدى الحكومة الإسرائيلية، القاضي بمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين، وهدم بلداتهم. من هذه الناحية، فإن مسؤولية الجانبين عن اندلاع الحرب لا يمكن أن تشكّل عذرا أو تبريرا للنكبة.

على العكس من الاعتقاد السائد، تثبت المصادر التاريخية، وبضمنها وثائق صادرة عن الجيش الإسرائيلي، أن معظم عمليات تهجير السكان الفلسطينيين قد حدثت خلال الأشهر الأولى من الحرب نتيجة "العمليات العسكرية للقوات اليهودية المقاتلة". إن عمليات الترهيب ودفع السكان المدنيين إلى الهروب كان تكتيكا مقصودا للقوات الصهيونية، إلى جانب عمليات التهجير المقصودة التي بادرت إليها هذه القوات عبر قوافل مشاة أو عبر شاحنات عسكرية. وقد كان دور الزعامات العربية في ترك الفلسطينيين ضئيلا.

إنّ طرد السكان من منازلهم ومنعهم من العودة هو عمل متطرف وقاس، ينتهك بصورة شديدة أبسط الحقوق الإنسانية، ولذا فهو محظور بموجب القانون الدولي بصورة صارمة وشاملة. لا يمكن تبرير عملية طرد ونهب أملاك السكان الفلسطينيين، بالحجم الذي تمّت به هذه العمليات، بوصفها جزءا من أحداث الحرب. لقد تحول نحو 750 ألفا من النساء والرجال إلى لاجئين في هذه الحرب، وتمت مصادرة أملاكهم. وقد تم دفع نحو نصفهم إلى الهرب، أو تم طردهم، قبل انضمام الجيوش العربية للحرب. كما لا يمكن تبرير منع عودتهم، وهذا ما لا علاقة له بموضوع المسؤولية عن اندلاع الحرب.

إن فكرة أن نتائج حرب 1948 يمكن فصلها عن كل ما حدث ولا يزال يحدث بعدها، و "تجاوز المسألة" ترتكز إلى مفهوم التفوق اليهودي- الصهيوني الذي لا يوجد أي مبرر تاريخي له، لا من ناحية قانونية ولا من ناحية إنسانية. فأولا، لم يتم قصر سياسات التهجير على سنوات الحرب، بل استمرت في سنوات الخمسينات، وخلال سنة 1967 وعبر أحداث لاحقة إضافية. وثانيا، مثل هذا التوجه يمسح الفلسطينيين أنفسهم تماما: فالكارثة لم تنته بالنسبة للاجئين الذين ليس بمقدورهم حتى زيارة خرائب قراهم، والكارثة بالنسبة للعائلات المشطورة التي لا يمكنها أن تفرح أو تحزن معا، والكارثة بالنسبة لسيدة من سكان يافا، أختها محاصرة في غزة، أو لأحد سكان جنين، يريد الزواج من حبيبته في حيفا، لم تنته بعد.

غالبا ما ارتبطت  عملية طرد الفلسطينيين بطرد آخرين على مرّ التاريخ، هذا الطرد يتم تبريره نتيجة لها. لا توجد عملية تهجير وطرد مبررة. لقد تمّ تهجير اليهود أيضا بوحشية، وهي واحدة من الأسباب التي دعت العالم إلى الاعتراف بحقهم في دولة ذات سيادة. وفي غالبية حالات التهجير (بما فيها إسبانيا الكاثوليكية، وألمانيا النازية)، اعتذر المجرمون، وقد تم دفع تعويضات، وإقامة أنصاب تذكارية، وتمت بلورة مضامين تربوية، وصار بإمكان أحفاد الضحايا الحصول على جنسيات وحقوق. ينبغي أن ينطبق نفس القانون أيضا على يهود الدول العربية والإسلامية، إذا ما رغبوا بالعودة إلى بلدانهم الأصلية. لم يتم تنفيذ أي من هذه الخطوات في السياق الفلسطيني، ناهيك عن استمرار السيطرة والقمع بحقهم.

حقّ العودة هو أحد حقوق الإنسان المنصوص عليها في القانون الدولي (في عدة نصوص ومواثيق من ضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، ومعاهدة جنيف الرابعة، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية). وإلى جانب ذلك، فقد حدد قرار الأمم المتحدة رقم 194 الصادر بتاريخ 11 كانون أول (ديسمبر) 1948 ب "وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وكذلك عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون الدولي والعدالة". لقد وافقت دولة إسرائيل على تطبيق القرار رقم 194 لكنها لم تنفّذه أبدا.

حتى سنة 2019، تم تهجير حوالي 8.7 مليون فلسطيني قسريا، منهم نحو 8 ملايين معترف بهم كلاجئين (في الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية وأماكن أخرى من العالم)، إلى جانب حوالي 700 ألفا من النازحين داخليا (وهم فلسطينيون تم تهجيرهم من منازلهم، وفرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية، لكنهم ظلّوا بلا أرض وممتلكات وممنوعين من العودة إلى القرى التي سكنوا فيها قبل سنة 1948).  إن تحديد "تاريخ انتهاء سريان" حق العودة، ومعه انتهاء تاريخ سريان مكانة اللجوء، هو أمر تم تحديده في المعاهدات، و بالاستناد إلى خيار اللاجئين أنفسهم. وطالما لا يوجد هنالك اتفاقيات، فإن نسل اللاجئين، وفقا للقانون الدولي ومبدأ لم شمل العائلات، يُعتبرون لاجئين ومستحقين لذات الحقوق (وهذا التعريف ليس فريدا أو مقتصرا على الحالة الفلسطينية).

كان مغزى اعتراف الأمم المتحدة بدولة إسرائيل هو الاعتراف بحق اليهود في العودة والاستيطان بلا قيود في أرض إسرائيل بعد ألفي سنة من المنفى. وبناء على إدراك أن هذا الحق ليس منصفا تجاه الفلسطينيين من سكان البلاد، فقد اشترط القرار رقم 194 هذا الحق باحترام حق لاجئي الحرب الفلسطينيين بالعودة هم الآخرين.

إن حقّ العودة هو حق أساسي من حقوق الإنسان، ولا ينبغي أن يكون تنفيذه مشترطا بحل سياسي مهما كان. ما من شك بأن إسرائيل ستغير طبيعتها الاستعمارية لدى تطبيق حق العودة، أيّا كانت التسوية المتفق عليها. إن طبيعة التغيير وحجمه يعتمدان على عدة أمور من ضمنها الاتفاقات التي يتم تحديدها عبر المفاوضات بين سكان البلاد ولاجئيها.

نحن نؤمن، في ذاكرات، بأن مثل هذا التغيير هو شرط أساسي من أجل تأسيس مجتمع قائم على المساواة المشتركة في البلاد، وبأنه يحمل في طياته فرصة حقيقية لمداواة الجرح العميق الذي بين الشعبين، كما يحمل في طياته دمجا مستداما ليهود إسرائيل في الشرق الأوسط، باعتبارهم أنداد، لا محتلّين. إلى جانب ذلك، فإننا نؤمن أن عملية متدرجة ومتواصلة من التخلي عن الامتيازات الفائضة، وإنهاء استعمار البلاد والثقافة السياسية الإسرائيلية، سيكون في مصلحة الجمهور اليهودي. على العكس من الأثمان المتمثلة في مواصلة الحياة في دولة يهودية محتلة: ثم العيش في دولة عسكرتارية، شوفينية، وعنصرية، لا يتم توجيه ميزانياتها إلى الرفاه الاجتماعي والتربية، بل لتمويل القوات القتالية، والتسليح، ومعارك الاستخبار، وجهود الدعاية السياسية "الهسبراة"، إلى جانب تمويل التربية على الجهل والقلق.

نحن لا نؤمن بحل الظل من خلال خلق ظلم جديد. هنالك عدد لا نهائي من الإمكانيات لتطبيق عودة اللاجئين من دون المساس بمزيد من البشر، ولكن وعلى أي حال، ينبغي أن تناقش الحلول العملانية على الأرض عبر مفاوضات يشارك فيها سكان البلاد ولاجئيها. تظهر استطلاعات رأي مختلفة عقدت ابتداء من سنة 1949 وحتى اليوم بأنه نحو خمس إلى ربع المواطنين اليهود يؤيدون عودة اللاجئين، إن لم تكن هذه العودة مشترطة بتهجير الإسرائيليين اليهود من منازلهم. هذا توافق واسع بما يكفي، مقارنة بقضايا أخرى قيد المناقشة في المجتمع الإسرائيلي. إن الأغلب الأعم من منظمات المجتمع المدني الفلسطيني يعارض المساس باليهود في إطار ممارسة حق العودة. كل ما يطلبونه هو العدل والمساواة في الحقوق، وهم يذكّرون بأن اليهود قد عاشوا إلى جانب العرب والفلسطينيين على مدار مئات السنوات، وبأن نضالهم هو ضد الاستعمار الصهيوني، لا ضد الشعب اليهودي.

تشير التقديرات حتى اليوم بأن نحو 80% من أراضي اللاجئين الفلسطينيين غير مأهولة، حيث تم تحويلها إلى منتزهات وطنية، أو مناطق إطلاق نار، أو تخصيصها لاستخدامات أخرى. وعلى أي حال، فإن العودة ليست عودة إلى الماضي، بل اشتراط لتأسيس مستقبل علاقات فلسطينية ويهودية ترتكز على العدالة والمساواة.

 

لقد تأسست ذاكرات للتذكير بتاريخ نزع ملكية الشعب الفلسطيني- وهو تاريخ تمّ قمعه وإسكاته في أوساط الجمهور اليهودي في إسرائيل. ليس التركيز على جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين نابعا من تجاهل الجرائم المرتكبة ضد اليهود، بل لأن الجرائم المشار إليها، أولا، معروفة في أوساط الجمهور اليهودي، وصوت ضحاياها اليهود حاضر في الخطاب الإسرائيلي، وثانيا لأننا نشجّع عملية الاعتراف في أوساط الجمهور اليهودي في إسرائيل بشأن الجرائم التي ضمن نطاق مسؤولية هذا الجمهور.

وبالنسبة لأولئك الذين عانوا من صدمة التهجير والفقدان الشديدة، فلا داعي للتنافس في الألم والظلم. ومع ذلك، فإن التفاوت بين عدم ضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين بحق العودة الممنوح لليهود هو تناقض صارخ. فغالبا ما تمت مقارنة طرد الفلسطينيين في أحيان كثيرة بعمليات طرد كثيرة على مر التاريخ، هذا الطرد يتم تبريره نتيجة لها. لا توجد عملية طرد مبررة. إن تهجير وطرد اليهود بوحشية هو واحد من الأسباب التي دعت العالم إلى الاعتراف بحقهم في دولة ذات سيادة. وفي غالبية الحالات (بما فيها حالة إسبانيا الكاثوليكية وألمانيا النازية)، اعتذر المجرمون، وتمّ دفع التعويضات، وتمّت إقامة النصب التذكارية وإقامة أنصاب تذكارية، وتمت بلورة مضامين تربوية، وصار بإمكان أحفاد الضحايا الحصول على جنسيات وحقوق. ينبغي أن ينطبق نفس القانون أيضا على يهود الدول العربية والإسلامية، إذا ما رغبوا بالعودة إلى بلدانهم الأصلية. لم يتم تنفيذ أي من هذه الخطوات في السياق الفلسطيني، ناهيك عن استمرار السيطرة والقمع بحقهم. وفي الوقت ذاته، فليس اللاجئون الفلسطينيون مسؤولين، أبدا، عن مصير هؤلاء اليهود، وبالتالي لا يجب أن يكون تصحيح أوضاعهم مشترطا بتصحيح أوضاع اليهود من الدول العربية.

إن محاولة إدامة أو إسكات النكبة الفلسطينية، في الواقع، تقف خلف الفجوات العرقية - الطبقية داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل أيضا. لقد استحوذ "جيل المؤسسين" الأشكنازي، الذي استند إلى تصورات استعمارية عنصرية، على التحكم بغالبية الأملاك التي أُخذت من الفلسطينيين، بدلا من الاهتمام بتعويض أو مساعدة المجتمع اليهودي الشرقي، بل قام باستغلاله، ووضع اليهود الشرقيين كفاصل وبديل للفلسطينيين، وقد مارس جيل المؤسسين في الوقت ذاته تطبيعا لعلاقات القوة، ولتوزيع الموارد داخل حدود 1948. بهذا المفهوم، فإن الحل العادل للمظالم التي تنطوي عليها النكبة، سيضع حدا أيضا للامتيازات الأشكنازية، وسيتيح عدالة في توزيع الموارد، حتى لو لم تكن هذه العدالة تامّة، بحيث يحصل عليها أيضا الفلسطينيون واليهودي الشرقي.

يعتبر احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة ونقل النظام العسكري إلى خارج الخط الأخضر، ليحكم فلسطينيي الضفة والقطاع بدلا من الفلسطينيين القاطنين داخل دولة إسرائيل، استمرارا مباشرا للأيديولوجيا والسياسات الصهيونية، وجزءا لا يتجزأ من النكبة المستمرة. فخلال حرب 1967، تم اقتلاع أكثر من 350 ألفا من الرجال والنساء من منازلهم، وقد كان نحو نصف هؤلاء لاجئين من سنة 1948. إن إسرائيل تمنع لاجئين 1967 أيضا من حقوقهم المكفولة بموجب القانون الدولي.

إن تركيز الخطاب السياسي الإسرائيلي حول احتلال سنة 1967 يطبّع، عمليا، المظالم التي ارتكبت سنة 1948. بمعنى: أنه يثبت التدمير، والطرد، والتبعية، والحرمان من الحقوق الأولية، ويحولها إلى حالة مقبولة في المجتمع الإسرائيلي. والحقيقة هي أن الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، والحصار المفروض على غزة، أكثر بروزا أمام ناظري الإسرائيليين، في حين أن اللجوء المستمر، ومصادرة الأملاك، والألم الفلسطيني، سواء أكان الألم الفردي أم الجماعي، هو أمر يسهل تجاهله.

من المهم معارضة الاحتلال العسكري والحصار، والقصف، والاعتقالات، والحواجز الهادفة للحرمان من الحقوق الإنسانية، وهدم المنازل، ومصادرة الأراضي... ولكن مواجهة تاريخ 1948 وتطبيق حقوق اللاجئين هما الخطوة الوحيدة التي تعترف بصراحة بالمظالم التي خلقتها علاقة القمع بين الفلسطينيين واليهود، ولذا فإنها تعدّ مفتاح العدالة والمصالحة. إن العمليات السياسية التي تركز على "حدود 1967" وتتجاهل حقوق جميع اللاجئين، تخلو من البراءة أو الإنصاف، ولذا فإنها تؤدي إلى طريق مسدودة.

يوجد في جمعية ذاكرات أعضاء وعضوات من جميع المشارب الجندرية. لقد تم اختيار اسم "ذاكرات" لأننا نؤمن بأن نوع الذاكرة السائد في المجتمع الإسرائيلي بشأن حرب 1948 هو ذاكرة عسكرتارية وشوفينية بطبعها، وهي تتعامل بصورة أساسية مع المعارك، والحملات العسكرية، والاحتلالات، وتمجيد البطولة. لقد اخترنا استخدام الضمير المؤنث في "ذاكرات"، تعبيرا عن محاولتنا لخلق بديل نسوي يطرح على جدول الأعمال مواضيع أخرى، كحياة التجمعات البشرية التي عاشت في البلاد حتى عشية الحرب، ومصائر النساء والرجال والأطفال الذين كوّنوا هذه التجمعات البشرية.

تماشيا مع النهج التاريخي للنسوية الجذرية، نعتقد بأنه لن يمكن إدراك معنى النكبة بصورة منفصلة عن الخبرة الحياتية للنساء، وهي خبرة يتم تجاهلها في أحيان متقاربة. ولن يكون أيضا بوسعنا إدراك السياقات والأدوار الجندية في الحاضر، بمعزل عن تداعيات النكبة والتأثير الاستعماري على المنطقة.

في الواقع الذي يدور فيه صراع حول ما الذي ينبغي تذكّره، وكيفية تذكّره، فإن عملية التذكر نفسها هي عملية سياسية. إن الكشف عن الحقيقة التاريخية المعرضة للإسكات، والمعرضة للإنكار، هي هدف رئيسي لذاكرات منذ تأسيسها، إلا أن مهمتنا لا تقتصر على هذا فحسب. نحن نؤمن بأن الذاكرة وتحمل المسؤولية حول النكبة الفلسطينية من قبل الجمهور اليهودي في إسرائيل هما شرط أساسي وضروري للإصلاح، ولكن هذا ليس شرطا كافيا. فالنكبة ليست حدثا تاريخيا حصل لمرة واحدة، بل هي عملية مستمرة حتى اليوم، وخصوصا طالما أن اللاجئين محرومين من حقهم في العودة. إن الاعتراف بحقوق اللاجئين، في نظرنا، هو مفتاح لإنهاء استعمار الحيّز وإنهاء صهينته، وهو يخلق حلّا عادلا ومستداما. وعلى أي حال، فنحن نؤمن بأن أي حل سياسي يجب عليه أن يصاغ من خلال العمل المشترك والمتفق عليه بين سكان البلاد واللاجئين بأنفسهم.

هل لديكنّ/م سؤال؟