بدأ تصوير الأفلام في فلسطين على يد عدد من المصورين بدءًا منذ العام 1897. الأخوين الفرنسيان لوميير مبتكرا الفيلم المتحرك أرسلا مصورًا بإسم ألكسندر فروميو الذي سجل مقاطع متفرقة للطبيعة والمدن والناس، واستمر قدوم المصورين من أنحاء العالم لتصوير مقاطع فيلمية استهدفت بالأساس الجمهور المسيحي في أوروبا، ومع تشكل بداية الحركة الصهيونية في أوروبا لاحظ ثيودور هرتسل مؤسس الحركة هذه الوسيلة الجديدة وحاول بين السنوات 1899 و 1902 صناعة فيلم دعائي عن أرض الميعاد لكنه لم ينجح في ذلك. في العام 1903 أرسلت شركة أديسون المصور ألفرد عبادي A.C. Abadie الذي جاء إلى مصر وفلسطين ولبنان في جولة هي الأولى بعد ظهور السينما. صوّر عبادي العديد من الأفلام القصيرة منها "قطيع أغنام على طريق القدس" و "سياح يصلون إلى يافا".

كاميرات الدعاية الصهيونية
استمر تصوير هذه النوعية من الأفلام حتى الحرب العالمية الأولى، جزء منها كان بهدف توثيق مشاهد الحرب العالمية الأولى كدخول الجيش البريطاني إلى فلسطين وهزيمة الجيش التركي. مع ازدياد عدد المهاجرين اليهود والرغبة في استجلاب المزيد منهم. بدأ إنتاج الأفلام الدعائية الصهيونية بصيغة مجلة أخبار استمرت في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحدثت خلالها المحاولة الأولى لإنتاج فيلم روائي أخرجه ألكسندر فورد البولندي المولود بالاسم اليهودي موشيه ليفيشيتس. استُقدمَ فورد من بولندا ليخرج فيلم  "صبار" عام (1932) واستخدم فيه تقنيات السينما الناطقة لأول مرة، ويعتبر الفيلم الطويل الأول الذي صنع على أيدي يهود. لم يُعرض الفيلم على الإطلاق داخل فلسطين ولم ينجح في العروض الأوروبية لأنه بالغ في تصوير بشاعة الصراع مع العرب على نبع ماء بطريقة لم يتقبلها الجمهور.

فيلم صالح شبتاي

لا يعتبر مؤرخو السينما الإسرائيلية فيلم "صبار" إسرائيليًا بالكامل كون تمويله ومخرجه جاؤوا من الخارج، لكن فترة سنوات الثلاثينيات تميزت بنشوء عدد من شركات الإنتاج التي هدفت إلى تصوير المجلات الإخبارية وتقديمها لجمهور القادمين الجدد من اليهود وكذلك في العالم. بعد فيلم "الصبار" أُنتج فيلم دعائي آخر هو "عوديد الرحال" (1933) وكان فيلمًا صامتا بسبب شحّ الميزانية. يصور الفيلم يصور المناظر الطبيعة في فلسطين من خلال قصة عوديد، الفتى الذي أضاع طريقه بعيدا عن مجموعته وراح يلتقي أشخاص وحيوانات برية وهو مرتحل في أرض اللبن والعسل. ثم جاء فيلم "هذه هي الأرض" (1935) الذي يصوّر بشكل وثائقي تحقيق الحلم الصهيوني بالسكن في فلسطين، ثم فيلم "فوق الأطلال" الذي واجه صعوبة في استكمال التصوير بسبب اندلاع ثورة العام 1936.

خلال هذه الفترة كانت السينما الفلسطينية قد بدأت أولى خطواتها مع الرائد السينمائي الأول إبراهيم سرحان في العام 1935، مع فيلم تسجيلي قصير مدته 20 دقيقة عن زيارة الملك سعود بن عبد العزيز لفلسطين، وتنقله بين عدة مدن فلسطينية منها القدس ويافا برفقة الحاج أمين الحسيني، مُفتي الديار الفلسطينية. بدأ بعد ذلك عدد من هواة فن السينما بإنتاج الأفلام والجرائد السينمائية كان من أبرزهم جمال الأصفر، خميس شبلاق وأحمد الكيلاني الذي درس السينما في القاهرة وتخرج منها عام 1945، ليُعدَّ بذلك أحد السينمائيين الفلسطينيين الأوائل الذين درسوا فن السينما أكاديميًا.

حصيلة الإنتاج السينمائي الفلسطيني قبل العام 1948 بقيت محدودة سواء تلك التي اكتملت أو لم تكتمل.(1) من جهة أخرى استمرت الأفلام اليهودية الدعائية المؤسسة على الأيديولوجيا الصهيونية لضرورات جلب المزيد من اليهود وتلقي مزيد من الدعم من الأغنياء اليهود في الخارج، وجاءت فترة انقطاع عند اندلاع الحرب العالمية الثانية توقف خلالها إنتاج الأفلام بسبب صعوبة وصول مواد الفيلم الخام من أوروبا. بعد انتهاء الحرب عادت شركات الإنتاج اليهودية لتصوير التقارير الإخبارية كما في السابق.

أفلام الحزب والمؤسسة
بعد نكبة العام 1948 وإعلان قيام إسرائيل بدأت السينما التجارية المحدودة محاولات إنتاج أفلام لصالات العرض، لكن صناعة السينما الإسرائيلية لم تجد الاهتمام الكافي من الحكومة لأن الاهتمام كان منصبًا في تلك الفترة على تنظيم الجيش وترسيخ الاقتصاد، حتى أن جاء العام 1954 مع سن قانون تشجيع الإنتاج السينمائي، وكان فيلم "التل 24 لا تُجيب" في العام 1955. من أهم أفلام هذه المرحلة وفي مركزه قصة خلاف على ترسيم الحدود الفاصلة مع العرب. استهدف الفيلم الجمهور اليهودي في العالم لتشجيع الهجرة إلى إسرائيل، فكانت لغة الفيلم هي الإنكليزية، عدا عن أن المخرج كان بريطانيًا وكذلك معظم الممثلين.

في المشهد الأخير يصعد جنود الهاجاناه وضباط القوات الدولية وضابط أردني إلى أعلى التل 24 ليجدوا أن القتلى بعد معركة انتهت للتو هم من اليهود. يحسم هذا الأمر الخلاف حين يعلن ضابط القوات الدولية أن هذه التلة تتبع لإسرائيل، مستندًا على وجود العلم الإسرائيلي في يد فتاة من بين القتلى طوت العلم بيدها قبل أن تموت. ينتهي الفيلم مع ظهور كلمة "البداية" في تعبير عن بداية تحقيق الحلم الصهيوني باستعادة الأرض من العرب، ويمكن اعتبار هذا الفيلم فاتحة للأفلام الإسرائيلية التي تناولت الحرب موضوعًا رئيسيا لها.

طوال فترة الخمسينيات وحتى الستينيات سادت فترة يُطلق عليها الواقعية الصهيونية في السينما الإسرائيلية، وكانت حصيلتها أفلام لم تتحرّر من الإطار الأيديولوجي الترويجي الذي أراده السياسيون من حزب مباي، الذي حكم إسرائيل دون انقطاع حتى العام 1977. كانت هذه أفلام تركز على الصراع مع الأعداء العرب ولم تولي أهمية لقضايا بدأت تظهر على السطح كمشاكل اليهود القادمين من الدول العربية والفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين اليهود الغربيين والشرقيين.

في العام 1960 أدرك دافيد بن غوريون مؤسس الدولة ورئيس الوزراء أهمية السينما في كسب تعاطف الرأي العام في العالم، وذلك بعد أن قامت هوليوود بتصوير فيلم "إكسودوس" Exodus للمخرج الأمريكي أوتو بريمنجير في عكا والقدس، بطولة النجم الأمريكي بول نيومان. ربح الفيلم جائزة أوسكار وجلب لإسرائيل التعاطف وانهالت التبرعات، الأمر الذي فاجأ بن غوريون وأقنعه بتأثير السينما وأهميتها، عدا عن ملاحظته أن الأفلام سوف تعجل في صهر اليهود الشرقيين في المجتمع الإسرائيلي ذلك أنهم لا يتكلمون الإيديش وستكون اللغة العبرية في السينما ما سيقربهم من باقي اليهود من القدامى والمهاجرين الجدد، وفعلاً بدأت السينما تبحث عن هؤلاء المشاهدين على يد ثلاثة من أبرز مخرجي تلك الفترة؛ مناحيم جولان وإفرايم كيشون وأوري زوهر.

اليهودي الشرقي يقتحم الشاشة
في مطلع الستينيات ظهرت إلى جانب أفلام الواقعية الصهيونية أفلامًا اصطلح عليها أفلام "البوريكس" وهي سينما شعبية تجارية تصوّر اليهودي الشرقي كشخص ذكي ومخادع عاطل عن العمل ويبحث عن الفرص لخداع الإشكنازي الساذج، وغالبًا ما تنتهي بزواج الشاب الشرقي من الفتاة الغربية كما في فيلم "تشارلي ونصف" (1974). أبرز هذه الأفلام فيلم "صالح شاباتي" (1964) كتابة وإخراج إفرايم كيشون، الذي نجح في تحقيق نجاح جماهيري على المستوى العالمي بأن فاز بجائزة الكرة الذهبية (غولدِن غلوب) لأفضل فيلم أجنبي. يعتبر فيلم "صالح شاباتي" الفيلم الإسرائيلي الأول الذي ينجح في تأسيس سينما محلية شعبية وساخرة. لا يزال الفيلم حتى اليوم علامة فارقة ومؤسِسة في السينما الإسرائيلية، عدا عن أنه كان الانطلاقة الأولى في أفلام البوريكس التي استمرت لعقدين من الزمن. 

كانت هذه بداية لسينما مختلفة تحاول التمرد على المؤسسة السلطوية بيد اليهود الغربيين، لكن أفلام الصهيونية الواقعية استمرت وكان من أبرزها "مشى في الحقول" (1967) الذي يروج لهالة من القدسية لمؤسسي إسرائيل، وتصل هذه النوعية من الأفلام إلى نهايتها مع فيلم "الكلبة المظلية عزيت" (1972) وهو إعداد لقصة كتبها موتا جير الذي كان رئيسًا لهيئة الأركان الإسرائيلية خلال حرب 1967، وهي قصة الكلبة عزيت التي تنقذ صاحبها حين يقع في الأسر بيد الفلسطينيين، هذه الكلبة (البطلة) تلقى التمجيد في الفيلم مقابل العرب الذين يظهرون في صورة كاريكاتورية مؤسسة على أفكار نمطيّة.

تستمر فترة السبعينيات مع أفلام البوريكس وتزدهر، وتجنح بغالبيتها إلى دغدغة قضايا اليهود الشرقيين وهم النسبة الأكبر من الجمهور الذي يدفع ثمن بطاقات صالات العرض. في ذات الوقت بدأت الأفلام المتعلقة بالحرب تأخذ شكلها الذي سوف يتبلور على مدار السنين القادمة. فيلم "الفرقة" إخراج آفي نيشر (1978) هو أحد هذه الأفلام التي استقبلها الجمهور بالترحاب ولا يزال الفيلم يعرض سنويا على قنوات التلفزيون في ذكرى استقلال إسرائيل. تدور الأحداث خلال حرب الاستنزاف في العام 1969 ويروي قصة الفرقة الغنائية للجيش المعروفة بالاسم المختصر "ناحال". حبكة الفيلم مبنية على التمرد الذي يقوم به أفراد الفرقة وتوقفهم عن الغناء تضامنًا مع زميلة لهم جرى طردها قبل أيام من العرض المباشر عبر التلفزيون. رغم تماهيه مع العسكرية الإسرائيلية إلا أن الفيلم يُظهر رغبة أبطاله في  النزوع إلى الروح الفردية، وهو ما يبدو تصادمًا مع الفكرة الترويجية في الأفلام السابقة والتي تُظهر الجندي ملتزمًا وملبيًا للأوامر العسكرية، ومقدامًا في سبيل تحقيق أهداف الجيش والدفاع عن الدولة.

فيلم آخر عن الجيش كان فد ظهر "تل حلفون لا يجيب" (1976) إخراج أسي ديان وهو ابن موشيه ديان وزير الدفاع حينها، وأحد أعمدة الصهيونية العسكرية، يمجد الجيش بقالب ساخر؛ ويستخدم الكوميديا في طريقة لتقريب فكرة العسكرية من الجمهور وأيضًا في قالب أفلام البوريكس ذاتها. تجري أحداث الفيلم على الحدود المصرية في معسكر للجيش، إلا أن الجيش المصري الذي لا نشاهده يبقى طيلة الفيلم مثار سخرية ولكن بطريقة مختلفة عن السخرية من الجيش الإسرائيلي التي لا تناله من زاوية النقد وإنما من الزاوية الفردية لشخصيات الجنود. حتى اللحظة لم يظهر العرب أو الفلسطينيون في السينما الإسرائيلية كشخصيات ذات بعد درامي وإنساني، ولم يجرؤ السينمائيون على فتح ملف النكبة وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، بل بقوا منشغلين ما بين تمجيد إسرائيل الدولة وتمجيد الجيش، إلى أن جاء الفيلم الذي فتح صفحة جديدة في الأعمال السينمائية الإسرائيلية. 

الفلسطيني في مركز الصورة
فيلم "خربة خزعة" (1979) من إخراج رام ليفي عن رواية يزهار سميلانسكي الصادرة عام 1949 كسر الصمت فيما يتعلق بالحدث الأهم؛ تأسيس الدولة على أنقاض نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948. يقدم الفيلم القصة الحقيقية للمأساة الفلسطينية، إنه التمرد السينمائي الأول والذي قوبل برد فعل عنيف من قبل النقاد والصحافة والحكومة. منع وزير المعارف زبولون هامر عرض الفيلم الذي كان مقررًا في القناة التلفزيونية الوحيدة آنذاك، ما حدا بالعاملين بالقناة تسويد الشاشة (جعلها سوداء) طيلة المدة المخصصة لعرض الفيلم. نجح هذا الاحتجاج في نقض قرار المنع وعرض الفيلم في الأسبوع التالي. شاهد الفيلم كل إسرائيلي تقريبًا عقب الضجة التي أحدثها منع عرضه، وجاءت الردود متباينة ما بين إنكار الحقيقة واستهجان أن هذا حصل فعلا.. ويروي مخرج الفيلم أن التلفزيون الأردني سجّل الفيلم من الهواء وقت بثه وعرضه في 29 نوفمبر 1980، في ذكرى قرار التقسيم 181. رد الفعل اللاحق لعرض الفيلم كان إقالة عدد من المدراء العاملين في التلفزيون وإلغاء قسم الدراما لخشية الحكومة من خطورة أن يرى الجمهور أفلامًا كهذه. كان هذا عهد مناحيم بيجين بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد.

بدأت بعد فيلم "خربة خزعة" موجة الأفلام التي يحتل العربي موضوعها مكان اليهودي الشرقي. أهم هذه الأفلام الجديرة بالإشارة "خماسين" (1981) للمخرج داني فاكسمان ثم فيلم "من وراء القضبان" (1984) لأوري باراباش وهو من الأفلام التي تهتم بعرض الروايتين اليهودية والفلسطينية وهذه المرة من داخل السجن؛ الفلسطيني فيه سجين أمني واليهودي الشرقي سجين جنائي. أراد مخرج الفيلم بث الأمل في إمكانية التوصل إلى مصالحة بين الطرفين، وما السجن كموقع تصوير إلا حجة لجعل هذا يحدث. لعب الدور الرئيسي الممثل محمد بكري في دور سجين سياسي حكم عليه بعدد من المؤبدات. السجناء اليهود يرون في السجناء الفلسطينيين أعداءهم، لكن الأحداث تتسلسل حتى تحدث المواجهة مع إدارة السجن والتي تقرب بين الطرفين دون قصد، فبعد سلسلة من الأحداث يعلن جميع السجناء الإضراب عن الطعام حين يكتشفون أن إدارة السجن كانت تتلاعب بهم: عربًا ويهودًا. في المشهد الأخيرة يحاول ضابط الأمن أن يجعل عصام (محمد بكري) يكسر الإضراب مقابل أن يقابل زوجته وابنه الذي ولد وهو في السجن ولم يره مطلقًا. (2)

مخرج فيلم خربة خزعه، رام ليفي

"أفانتي بوبولو" (1986) لمخرجه رافي بوقاعي، كان الفيلم الذي أخذ الاهتمام الأكبر وتوّج هذه النوعية من الأفلام التي قام بلعب الأدوار فيها ممثلون عرب، وفي "أفانتي بوبولو" بطولة مطلقة لسليم ضو وسهيل حداد. الفيلم ذو الحبكة البسيطة يعكس الأدوار عن قصد ويجعل الجنديين المصريين الشخصيات الرئيسية التي يتعاطف معها المشاهد -وهو الأمر الطبيعي في التكوين الدرامي السينمائي- في المقابل يقدم الجنود الإسرائيليين بصورة الأشرار. يتيه الجنديان في الصحراء بعد أن انفصلا عن فرقتهم في سيناء خلال حرب الأيام الستة 1967 ولا يجدان ما يشربانه من ماء طيلة أيام، إلى أن يصادفا سيارة جيب تابعة للأمم المتحدة قُتل سائقها، يجدان فيها زجاجة من الويسكي. يشربان ويبدآن رحلة أخرى من التيه إلى أن يتقاطع طريقهم العبثي مع فرقة صغيرة من الجنود الإسرائيليون، هي الأخرى ضائعة. حالة الثمالة هذه تفاجئ الجنود الإسرائيليين وتجعلهم يتندرون بحالة الجنود المصريين، يطلقون النار عليهم بهدف التسلية ويمنعون عنهم الماء.

فيلم وراء القضبان

"أفانتي بوبولو".. بطولة مطلقة لسليم ضو.

في مشهد انخرط في الذاكرة السينمائية الإسرائيلية يؤدي سليم ضو على لسان شخصية خالد الأسمر الجندي المصري مونولوج من مسرحية تاجر البندقية لوليم شكسبير، يدافع فيه اليهودي شايلوك عن نفسه: "أنا يهودي.. أليس لليهودي عينان؟ أليس لليهودي يدان وأعضاء جسد، طول وعرض؟ أحاسيس، ومشاعر وعواطف ورغبات؟ أفلا يطعم من نفس الطعام؟ تؤذيه نفس الأسلحة؟ يتعرض لنفس الأمراض ويشفى بنفس الوسائل؟ يشعر بالحر والبرد من ذات الشتاء والصيف.. كما المسيحي؟ إذا وخزتمونا ألا ننزف دمًا؟ إذا دغدغتمونا ألا نضحك؟ إذا أسقيتمونا السم ألا نموت؟......"

حسب قصة الفيلم فإن الجندي المصري خالد الأسمر كان ممثلاً في المسارح المصرية، يلقبه أصدقاؤه باليهودي لأدائه دور شايلوك في مسرحية تاجر البندقية. للمرة الأولى ودون سابق إنذار يصبح للعربي اسم وسيرة حياة وبعد ثقافي في السينما الإسرائيلية. حين يظهر الجندي العربي في الفيلم بدور اليهودي في سيناريو يتقصّد فتح الأعين، فإنّ رافي بقاعي ينجح في عكس الأدوار وتنبيه جمهوره إلى أن العربي هو "اليهودي الجديد" الذي يعاني من اللاسامية! حقق الفيلم نجاحًا عالميًا وحصّل جائزة عين الفهد الذهبية في مهرجان لوكارنو.

الجيش يبحث عن صوته في الأفلام
تنبهت المؤسسة العسكرية لهذه الأفلام التي كانت تنتج خارج إرادتها. فيلم "أفانتي بوبلولو" كان مشروع تخرج من جامعة تل أبيب وتحول إلى فيلم طويل. جاء رد المؤسسة العسكرية بأن موّل الجيش فيلم "إصبعين من صيدا" (1986) كي يقدم روايته لغزو لبنان. يسرد الفيلم قصة جنود في قاعدة عسكرية مظلية أنشئت وسط بعض القرى اللبنانية، ويركز الفيلم على تصوير التعامل الإنساني  للجنود مع السكان المحليين، في ذات الوقت يتساقطون موتى بالقنابل المفخخة على الطرقات. في المسار الدرامي للفيلم لن يستمر ظن الجيش الحسن بالسكان المدنيين، ففي مشهد اقتحام منزل إحدى العائلات اللبنانية لا تكون نظرات الخوف في أعين أفراد العائلة إلا الدافع لجعل قائد المجموعة يأمر أحد الجنود بإزاحة رجل عجوز مُقعد من على الأرض، ليكتشف وجود باب سري يقود إلى مخزن أسلحة !

تستمر من الآن فصاعدًا أفلام الحرب التي تتماشى مع أهداف المؤسسة العسكرية والسياسية بتصوير الحرب كردّ فعل تجاه خطر العرب على إسرائيل، خاصة أن غزو إسرائيل للبنان استمر لسنوات طويلة، وكانت هذه حربًا مختلفة عن الحروب السابقة التي انتهت في أيام. شكلت حرب لبنان الأولى 1982 مادة دسمة لكثير من المخرجين لسنوات قادمة حتى يومنا هذا، وحرصت المؤسسة الإسرائيلية بفروعها السياسية والحربية والثقافية على تمرير مقولات أن الجيش يحاول تفادي قتل مدنين أبرياء وإن حصل هذا فاللوم يقع على "الإرهابيين" وما الجنود المنقادين للحرب سوى فتيان زُجّ بهم في المعارك في الوقت الذي كان من الممكن أن يمارسوا حياتهم الطبيعية ويحققوا أحلامهم. معظم الحوارات التي تجري بين الجنود في هذه النوعية من الأفلام تهدف إلى أنسنة الجندي الذي يتحدث عن الحنين للبيت وعدم رغبته في التواجد في جبهة الحرب، ما يذكر بالأفلام الأمريكية عن حرب فيتنام التي تجتهد لجعل المشاهد يتعاطف مع قصص الجنود البعيدين عن بيوتهم، بينما يظهر الفيتناميون أصحاب الأرض والبلاد مجرد خيالات بشرية في خلفية المشهد.

في الوقت ذاته لم تتوقف الأفلام "عكس التيار" في الظهور، ووجدت المؤسسة أنه لا بأس بها طالما أن الأمر يقدم إسرائيل كدولة منفتحة، تسمح بالنقد الموجه للجيش، ما يعني الإثبات على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، الأمر الذي يغرد به قادة إسرائيل ليل نهار. نتيجة لهذه الرؤية فإن دعم القطاع السينمائي سيزداد بشكل متسارع من سنة إلى أخرى بهدف ترويج إسرائيل في العالم، بصورة تختلف عما يظهر به جنود الاحتلال في نشرات الأخبار. في فيلمه "الحياة حسب أجفا" (1993) يتنبأ آسي ديان بتحول عنف الجيش في المناطق المحتلة إلى المجتمع الإسرائيلي، في المشهد الأخير تقوم مجموعة من الجنود بقتل كل من في المقهى بسبب إهانة تلقوها في سهرة الليلة السابقة من اليساريين أصحاب ورواد المقهى. تمر سنوات قليلة حتى تصدق النبوءة ويُقتل رئيس الوزراء إسحاق رابين بيد يهودي. هذه المقولة السينمائية الجريئة ستمنع أسي ديان أن يقدم أفلام مماثلة في المستقبل.

فيلم "كيبور" المُنتج في العام (2000) للمخرج عاموس جيتاي يحكي قصة إثنان من الجنود الذين يتم استدعاءهما في بداية حرب العام 1973 للمشاركة في إنقاذ الجرحى في الحرب الدائرة في مرتفعات الجولان السورية، وعندما يصلان إلى هناك يجدان أن المنطقة قد عمّتها الفوضى الشديدة أثناء انسحاب القوات الإسرائيلية منها. يُعتبر "كيبور" من أكثر الأفلام الإسرائيلية نضوجًا من الناحية السياسية، وقد لقي معارضة كبيرة داخل إسرائيل. كان جيتاي المعروف بمعارضته للنهج المؤسساتي في أفلامه الأولى قد أخرج الفيلم الوثائقي "بيت" (1980) وفيه يسرد قصة بيت عربي في القدس أصبح يمتلكه يهودي ويقوم بالعمل على ترميمه عمال بناء عرب. يقدم في فيلمه هذا الإدانة عبر المشاهد المتنقلة بين المالك القديم والجديد، إدانة واضحة لنهب الممتلكات العربية في أعقاب نكبة 1948. الفيلم مُنع من العرض بسبب مقولته السياسية ما جعل جيتاي يغيب لسنوات طويلة في فرنسا ويحاول أن يجد تمويلا لأفلامه في أوروبا.

سينما الرفض الوثائقية
قرار مغادرة إسرائيل الذي اتخذه بعض المخرجين ظاهرة بدأت مع جيتاي الذي عاد في سنوات لاحقة يتودد للمؤسسة ويغير من مواقفه ضدها. في حالة إيال سيفان فقد كان القرار بمغادرة إسرائيل نهائيًا في موقف رافض للعيش في دولة عنصرية محتلة. قدم سيفان مجموعة من الأفلام التي تفضح شمولية الدولة المخفية تحت غطاء ديمقراطي، ففي فيلمه التسجيلي الطويل "عبيد الذاكرة" (1991) يقدم كشفًا مكثفًا لكيفية عمل المؤسسة العسكرية والسياسية في الحضانات والمدارس والجامعات على فرض فكرة التجند للجيش؛ عن طريق التربية والتعليم يجري خلق مجتمع عسكري، فلا يفكر أي شاب مرتين بضرورة أن يكون جنديًا مهمته الدفاع عن الدولة اليهودية الوحيدة في العالم مقابل أعدائها العرب! يعود سيفان في العام (2010) ليقدم فيلم "يافا" وفيه يعرض التفاصيل الكاملة لعمل الحركة الصهيونية منذ نشوئها على ترويج منتوج البرتقال الفلسطيني على أنه إسرائيلي ثمرة عمل الفلاح اليهودي، فيعرض ملصقات البرتقال في الفترة الانتدابية في فترة  الهجرات اليهودية الرابعة والخامسة حتى 1948 ومحاولة قلب الميزان الديموغرافي في فلسطين الذي تحقق في نكبة العام 1948. اختار إيال سيفان أن يقيم خارج إسرائيل لقناعات وصل إليها، وهذا ما سيحدث لمخرج أخر ولكن خلال تصوير واحد من أفلامه.

يأتي فيلم "شتات" (2003) الوثائقي للمخرج آشر طلاليم ليحقق ما لم يحدث لكثير من السينمائيين: أن يغيرك الفيلم الذي تصنعه. يبدأ الفيلم حين يلتحق المخرج بزوجته التي تدرس للقب الدكتوراة في لندن، هناك يفكر في تصوير فيلم شخصي عن زوجته وحياة العائلة. تتطور الفكرة ليدخل أشخاص آخرون في الفيلم من بينهم إسرائيليون: بوعز الذي يعمل مراسلا لجريدة معاريف في لندن، جلعاد الموسيقي الذي أصيب بصدمة في حرب لبنان ونزح إلى لندن، حوي طالبة جامعية تزوجت من إنكليزي. أيضًا، فلسطينيون نزحوا من المنفى إلى المنفى: خالد طه إبن عائلة فلسطينية من أحد المخيمات في غزة الذي يعود أصل عائلته المهجّرة لقرية الفلوجة وتقوم على أنقاضها مدينة كريات جات. أمجد زيادة المولود في قرية الخيرية قضاء يافا، المدفونة تحت أكبر تجمع نفايات في إسرائيل، تيم هانت العالم البريطاني المُنصب على تجارب انقسام الخلايا.

يقدم آشر طلاليم "شتات" الذي عرض في مه رجان برلين كعمل سينمائي تسجيلي جديد وفي تاريخه السينمائي 24 فيلمًا والكثير من الجوائز. أهم ما يقدمه الفيلم الذي يتعقب شخوصه خلال أربع سنوات ذلك الأثر الذي يحدثه في نفس مخرجه، فيعود إلى اعتناق اسم عائلته المغربية السابق، ثم يطلّق الأيدولوجيا الصهيونية. ولد طلاليم في طنجة في المغرب باسم أشر ده-بنطوليله، وحين قدمت العائلة إلى إسرائيل تغيّر الاسم إلى طلاليم، وبهذا الاسم يعرفه الجمهور الإسرائيلي كأحد المخرجين البارزين. في طنجة بعد أربعين عاما يكتشف أن والده ترك المغرب طوعًا، بينما هناك من ترك أرضه رغمًا عنه.

هذا اللقاء بين المخرج وباقي شخصيات الفيلم لا يمكن أن يحدث في أي مكان سوى لندن حسب قول المخرج، وبالتحديد لا يمكن أن يحدث داخل أرض فلسطين التاريخية. يدرك أشر ده-بنطوليله طلاليم (حسب ما يرغب أن يكون اسمه الجديد) أنها  فرصته للفهم خلال تصوير الفيلم هذه الكلمة التي ترافقه حيث ذهب "الشتات"، خاصة حين يعيده خالد إلى نفسه حين يسأله: ألم تكن أنت أيضًا تريد العودة إلى وطنك المغرب؟ خالد الذي يعمل أجيرًا في مطعم جامعة لندنية يمثل الشتات الفلسطيني الآني مقابل الشتات اليهودي في التاريخ القريب، ويوجه ده-طلاليم الأسئلة لخالد وصديقه أمجد في اللحظة التي يوجه الأسئلة ذاتها لنفسه: لماذا تريدون العودة؟ ما الذي يربطكم إلى ذلك المكان؟ ما هي قصة رحيلكم عن أرضكم؟ في الفيلم يقدم طلاليم روايته التسجيلية من خلال أربعة رحلات.

فيلم "لبنان"

في الرحلة الأولى يسافر إلى طنجة مسقط رأسه، يعود إلى البيت الذي ولد فيه ويحاول استرجاع ذاكرته. في البيت الذي تركته عائلة ده-بنطوليله تسمح العائلة المغربية له بالدخول ليستعيد طفولته. تدور الكاميرا في أرجاء البيت ونكتشف أنها تصور الأرضية والبلاط في صور عشوائية غير مرتبة، في نهاية المشهد يخبرنا صوت المخرج أنه أخطأ بالضغط على زر الكاميرا فكان يشغلها ويطفئها بصورة معكوسة.

أن تدور الكاميرا في اللحظات الميتة التي من المفترض أن لا يتم تصويرها رمزية بالغة لها دلالتها؛ إنها المقاطع الميتة من الحياة، التي لا تريد شاشات سينما الحرب أن تسمح  لسينما التهجير القسري لليهود من بلادهم أن تحكيها، يسجلها طلاليم وهو في مواجهة مع بيت طفولته بمثل هذا الارتعاش الذي سيتحول في باقي أجزاء الفيلم إلى مشاهد مُتقنة.

في الرحلة الثانية يزور المخرج وزوجته قبر جدها الرابي إليميليخ ملجينسك القديس في بولندا الذي يحجّ إليه الآلاف من اليهود في مناسبة سنوية للحصول على تبريكاته. تتحدث الزوجة عن جدها الذي كان منعزلا عن الناس يعيش النفي الحقيقي الذي عاشه اليهود عبر التاريخ وتجد في بولندا وطنها الأول وتشعر بالفخر لأجل ذلك. في الرحلة الثالثة تأتي ابنته إلى لندن؛ طالبة في الجامعة العبرية في القدس، تتحدث حال وصولها عن خوفها من التفجيرات التي يقوم بها الفلسطينيون في الباصات وتتوجس من العودة، وسرعان ما تكتشف التحول الحاصل عند والدها، تتهمه أنه بات يناقش بطريقة تختلف عما كان يفعل في إسرائيل، فما الذي حدث؟

في الرحلة الرابعة يقرر آشر ده-بنطوليله طلاليم أن يزور الأرض المسلوبة. يقوم برحلة العودة الرمزية إلى فلسطين نيابة عن خالد وأمجد، يزور مجمع نفايات "خيرية"، ويزور كريات جات، يبحث عن الفلوجة وعن رائحة لبيت خالد. يقوم آشر ده-بنطوليله طلاليم في الحقيقة وفي الفيلم بفعل ما لا يستطيع صديقيه الفلسطينيين أن يفعلاه بفعل ظروف اللجوء، يقول: "إنه لشعور شديد الغرابة أن تكون هذه الزيارة نيابة عن سكانها الأصليين، وليست زيارة المكان الذي عشت فيه معظم سنوات حياتي".

خلال بحثه عن الإجابات بخصوص الصراع يصادق أشر ده-بنطوليله طلاليم -صاحب الاسم الطويل منذ الآن- العالم البريطاني تيم هانت، يحاول أن يبحث بطريقة علمية عن حل للصراع من خلال تجارب يجريها هانت على انقسام جزيئات الخلايا. في نهاية التجربة التي تجرى لأغراض علمية بحتة، ينطق العالم البريطاني بجملة: "لا يمكن أن تحيا الخلايا في سلام، لا بد أن تأكل أحدها الأخرى، هذا هو مصير الصراع في الشرق الأوسط، لا بد أن يدمر أحدكم الآخر!". خلال تصوير أحد المشاهد يتم تبليغ هانت عبر مكالمة هاتفية أنه حصل على جائزة نوبل في الطب، ولا يبدو عليه أنه يصدق في لحظة انفعالية نبأ حصوله على الجائزة.

أراد المخرج أن يصنع فيلمًا من غير أن يجادل الخصم الفلسطيني، أرادها فرصة ليستمع ولو لمرة واحده لما يقوله الفلسطينيون دون أن يجادلهم بمصداقية ما يقولون". رغم ما يقدمه الفيلم من حقائق فإنه يفشل في أن يصل للمجتمع الإسرائيلي ويؤثر فيه، لأسباب معروفة.. إلا أنّ آشر ده-بنطوليله طلاليم قد اتخذ قراره: لا عودة إلى إسرائيل.

أفلام ذاكرة الحروب
يضع الفيلم الإسرائيلي "لبنان" (2009) الأصبع مرة أخرى على الجرح الذي يعتبره الإسرائيليون لا زال نازفًا. تجري أحداث الفيلم في دبابة فيها ثلاثة جنود وضابط وجثة جندي آخر، المكان: مدينة ما في لبنان. إنها قصة جندي إسرائيلي في العشرين من عمره، حزيران العام 1982. الدبابة جزء من عملية تمشيط واسعة على يد سلاح المظليين في منطقة تم قصفها بالطائرات الإسرائيلية.

المهمة التي أوكلت إلى طاقم الدبابة تبدو مستحيلة، فتنظيف منطقة مدنية بعد تفجيرها من قبل الطائرات الحربية الإسرائيلية لن تكون مهمة سهلة، فقد علقت الدبابة وطاقمها داخل مدينة وباتت محاصرة من القوات السورية من كافة الجهات، ولن تستطيع الإفلات إلا بمساعدة من قوات الكتائب الذين يصورهم الفيلم غارقون في تصفية حسابات داخلية، ويبدو أنه من السهل على مخرج الفيلم أن يتبنى ما تروّج له العسكرية الإسرائيلية بأن اللبنانيين يقتلون بعضهم بعضًا وأن إسرائيل خارج اللعبة.. بل وقد تكون الضحية!

"لبنان" فيلم آخر يفوز في مهرجان أوروبي وهذه المرة الأسد الذهبي من مهرجان البندقية، إضافة إلى جائزتين أخريين من بين الجوائز التي يوزعها المهرجان(3) . ليس المقصود لبنان الدولة وإنما لبنان الحرب. لم يخرج الفيلم عن سياق ما يشبهه من الأفلام التي تُظهر الجندي الإسرائيلي في موقف دفاعي، بينما يتجول العرب خارج الدبابة، وجوههم بشعة ولحاهم طويلة. صور المخرج شموليك ماعوز فيلمه من داخل دبابة؛ كي يُظهر الخوف من الأماكن المغلقة والذعر الذي عاناه كجندي إسرائيلي في الحرب. يروي قصته الشخصية، كيف أن الحرب اضطرته إلى القتل. كان وقتها يرى العرب من خلال منظار الدبابة، وها هو الآن يراهم من وراء الكاميرا.

يعيد هذا الفيلم مرة أخرى إلى الأذهان الأفلام الأمريكية عن فيتنام والتي نرى فيها الجندي الأمريكي يواجه الموت كل لحظة، لكنه يبقى مستعدا لمساعدة القروي الفيتنامي الذي سرعان ما يغدر به، ولا يبقى أمام المشاهد إلا التعاطف مع الجندي الأمريكي وكأن الحرب تجري على أرضه! إنها أيضًا الحالة الإسرائيلية التي نراها في فيلم "فالس مع بشير" (2008) لآري فولمان، وهو وثائقي مصنوع بطريقة الرسوم المتحركة، يعتبره المخرج فيلمًا شخصيًا، يحاول فيه أن يستعيد ذاكرته المفقودة من أيام مشاركته بساعات الاجتياح الأولى للبنان عام 1982، ولأجل استعادة الأحداث يبحث عن رفاقه في الوحدة العسكرية، يقرّب المشاهد منهم أكثر ما يمكن.

نرى الجنود يدخلون الأراضي اللبنانية في اليوم الأول على متن دباباتهم وهم يغنون "صباح الخير يا لبنان". يروي فولمان بصوته القصة، إنه جندي في الحرب ليس أكثر، رحلة مليئة بالغبار وصوت الكلاب في الليل، إلى أن يأتي الحدث الذي يغير حياته: مجزرة صبرا وشاتيلا. يتساءل فولمان خلال الفيلم أين كان الجيش الإسرائيلي وقت حدوث المذبحة، ولماذا لم يوقفها؟ تبدو هذه الأسئلة وكأنها أسئلة أخلاقية، لكنها في الحقيقة تؤدي إلى نتيجة يريدها وهي أن المليشيات المسيحية كما يسميها، هي صاحبة المسؤولية الأولى، وبالتالي لم كان بوسع الجيش المحتل لأرض لبنان أن يفعل شيئًا إلا بعد 36 ساعة حين يوقف المذبحة! من الناحية العملية يصعب التعاطف مع دوافع المخرج آري فولمان لصناعة الفيلم حين نعرف أنه عمل لسنوات في جيش الاحتياط الإسرائيلي ككاتب سيناريو لأفلام الجيش الدعائية!

في هذا الفيلم يتكرّر خطاب الجندي ضحية الحروب التي يقوم بها. المحرقة النازية بحق اليهود لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان فهي على الشاشة. صديق فولمان المحلل النفسي يقول له: "هذه المذبحة مرتبطة عندك بمجزرة أخرى، مجزرة أهلك في محرقة أوشفيتس"، تأكيد جديد على أن الجندي الإسرائيلي ضحية حروبه. يسير فولمان في الطريق ذاتها التي تبرر قيام العسكرية الإسرائيلية بجرائمها، فاللوم في ارتكاب المجازر يقع على تلك المحرقة النازية اللعينة!

يُضاف فيلم "فالس مع بشير" إلى قائمة الأفلام الإسرائيلية التي تريد تجميل وجه إسرائيل فتتبناها وزارة الخارجية الإسرائيلية بحفاوة. يتفاخر فولمان أنّ سفراء إسرائيل استقبلوه في كل مكان ذهب إليه لعرض الفيلم. تأتي هذه الفئة من الأفلام وكأنها تتحدث عن الماضي، ويقدّم المخرجون/ الجنود أنفسهم كضحية لهذه الحروب، ويعذرون قادتهم الذين أرسلوهم، فلم يكن لديهم خيارات سوى محاربة الأعداء. تلتقي هذه الرواية مع ما تريد إسرائيل أن تظهر عليه في العالم؛ ناقدة لنفسها، معتمدة على ذاكرة الجندي المثقوبة.

هل من موجة جديدة؟
في فيلمها "على جانب الطريق" (2013) تقدم ليئا تاراشانسكي فيلمها الوثائقي الجديد من المحطة الأولى في مستوطنة أريئيل، مكانها الأول في إسرائيل بعد الهجرة من أوكرانيا مع عائلتها وهي بعمر 4 سنوات، ثم مرورًا بفترة تعليمها الجامعي في كندا ولقائها هناك بفلسطينيين ومؤيدون للقضية الفلسطينية. ويحدث أن تتحول من عقلية المستوطِنة إلى تقبل الفلسطيني والحوار معه ومعرفة حكايته، ثم إلى الانكشاف على "أسبوع أبارتهايد إسرائيل" التي تقيمه الجامعة، لتصل في محطة هبوط العودة في تل أبيب إلى التعرّف على جمعية "ذاكرات" التي تعمل على إحياء النكبة في المجتمع الإسرائيلي، ما يعني سباحتها عكس التيار المركزي تماما.


فيلم فالس مع بشير

يصوّر الفيلم بشكل شفاف رحلة الانتقال من أقصى اليمين الراديكالي إلى أقصى اليسار الفاعل، لا يتجمل على حساب البطولة الشخصية للمخرجة، فتبكي حين تزور مكان طفولتها وتتذكر الحب الأول والجيران في أريئيل؛ المستوطنة الأكبر في الضفة الغربية التي احتضنت عائلتها بعد القدوم إلى إسرائيل، ولا تنكر المخرجة تاراشانسكي في فيلمها الشخصي حنينها لتلك الأيام. لكنها في المقابل تعرض الصورة كاملة بدءًا من تصوير مخيم عسكر قرب نابلس والذهاب مع أحد أبنائه المهجرين في جولة لقرية قاقون ولم يبقى منها سوى قصر قديم. في أحد المشاهد تقف تنظر إلى المدينة من بعيد، ويصدُف أن تمر عائلة مستوطنين في سيارة على الطريق ترابي، يسألون عن هدف التصوير؟ تشرح لهم وتضحك مودعة إياهم، ثم تستفيق وتلوم نفسها؛ كيف ستواجه صديقتها الفلسطينية حين تخبرها أنها تحاورت مع مستوطنين وأنها لم تعلن بعد قطيعتها الكاملة مع ماضيها.

يطرح الفيلم الأسئلة بنبرة حازمة بصورة تفوق التي في فيلم "خربة خزعة" على بعد 33 عامًا في الماضي، لكنه يبقى فيلمًا على الهامش الإسرائيلي، لن يراه الكثيرون لأن صالات العرض التجارية والقنوات التلفزيونية لن تصل في القريب إلى تقبل هذا النوع من الأفلام التي تنسف الأسس التي قامت عليها إسرائيل: الصهيونية والحروب المقدسة ضد العرب. رغم هذا فإن فيلم "على جانب الطريق" قد يبشر بأفلام أخرى لا تتبع المحظورات المعلنة والضمنية في الرابط المشدودة بين السينما والمؤسسة.

__________________________________________

هوامش

1. بعض الأفلام الفلسطينية التي أنتجت في هذه الفترة كان "أحلام تحققت" وهو فيلم مدته 45 دقيقة كان بمثابة دعاية لدار رعاية أيتام، وفيلم عن "ستوديو فلسطين" الذي أُسِّس عام 1945 وتظهر فيه الراقصتان شمس وقمر والمطرب الفلسطيني سيد هارون، وفيلم عن أحمد حلمي باشا عضو الهيئة العربية العليا، وفيلم بعنوان "في ليلة العيد" أنتجته شركة الأفلام العربية، مثَّل فيه كل من حسن أبو قبع وأحمد الصلاح.

2. في مقابلة معه يقول محمد بكري أنه أضرب عن التصوير في ذلك اليوم ووصل في النهاية للاتفاق مع المخرج بأن اقترح عليه أن يصوّر نهايتين للفيلم، ثم يقرر في غرفة المونتاج أيهما أصح في سياق الفيلم الكامل.

3. رُفض عرض الفيلم في مهرجان برلين الدولي ومهرجان كان السينمائي.

__________________________________________

نشر المقال لأول مره في نشرة مدار - المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية




لتحميل الملف