في هذه الأسابيع المروّعة من الهجمة الإسرائيليّة المتواصلة على غزّة. الهجمة الّتي أسفرت عن مقتل أكثر من عشرين ألفًا من الفلسطينيّين، بدأت مقترحاتٌ مثيرةٌ للقلق بالظّهور. لقد اقتُرِح، حتّى من قبل مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة الإسرائيليّة، بأن الحلّ لسكّان غزّة الّذين يزيد عددهم عن مليونيّ إنسان، سينطوي على تهجيرهم جنوبًا إلى الأراضي المصريّة في شبه جزيرة سيناء. لكن هذا المقترح، ينطوي على موافقةٍ إشكاليّةٍ لتهجير الفلسطينيّين قسرًا.

مع ما تقدّم، يتوجّب علينا أن ندرك بأن غالبيّة فلسطينيّي غزّة قد تمّ تهجيرهم قبل وقتٍ طويلٍ من تاريخ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر). إن أكثر من 70% من سكّان غزّة هم من الفلسطينيّين الّذين جرى تهجيرهم خلال تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، أو بعد ذلك بوقتٍ قصير. تعود جذور هؤلاء إلى مدنٍ وقرىً مثل يافا، والرّملة، واللّد، وبئر السّبع، وإسدود، والمجدل، وهي أماكن تمّ تهجير معظمها وتدميرها، وإحلال المستوطنات الإسرائيليّة محلها: بلداتٍ، ومدنًا، وقرى.

بدلًا من التفكير في تهجيرٍ قسريٍّ آخر، ماذا لو أتيح للفلسطينيّين في غزّة، المجال لممارسة حقّهم في العودة؟ ماذا لو سقطت الحواجز في شماليّ وجنوبيّ القطاع، لا بفعل القوة، بل نتيجةً للاعتراف، والعدالة، والالتزام بالسلام؟

لقد بنيت سديروت، الّتي تعرّضت للهجوم في السّابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، على أنقاض قرية الهوج الفلسطينيّة، الّتي تمّ تدميرها وتهجير سكّانها في العام 1948. الآن، تخيّلوا إعادة بناء الهوج، في إطار إعادة بناء غزّة، بوصفها مكانًا يتّسع للجميع، فلسطينيّين ويهودًا. ماذا لو كانت عمليّة إعادة الإعمار مساحةً مشتركةً تشمل جميع من يعيشون هناك؟

ماذا لو بُنيت مدينة غزّة بعد القصف المتواصل، بحدودٍ مفتوحة، لتصبح مدينة كُبرى، ومركزًا للقرى والبلدات الصغيرة المحيطة بها، ماذا لو تشارك الجميع شاطئ غزّة الجميل؟

هل يمكن للإسرائيليين المهجّرين من سديروت، على مدار الأسابيع السّبعة الماضية، أن يعيشوا مع الفلسطينيّين المقتلعين من الهوج، على مدار العقود السّبعة الماضية؟

أمام مشاهد آلاف الضّحايا، والأحياء المدمرة، والتّجمّعات السكّانيّة المقتلعة من مكانها، والفظائع، وأصداء نكبة عام 1948، من الصّعب تخيّل مستقبلٍ كهذا. ولكن، ماذا لو قاومنا الرغبة في إسباغ هذه القضيّة بالطابع الأمني؟ ماذا لو عارضنا الـ "حلول" الّتي تقترح المزيد من الجدران، والمزيد من السّلاح، والمزيد من العنف؟ ماذا لو أصررنا على أنّ أساس الحلّ يتمثّل في المساواة، والحريّة، والعدالة للجميع؟ ماذا لو أدركنا، أخيرًا، أنّ الأمن، وحياتنا، حياة كل من يعشن في هذا الحيز، يعتمدان على بعضهما؟

إنّ عودة الفلسطينيّين، وإنهاء الاستعمار، لا يعنيان بالضرورة التّرحيل الجماعيّ لليهود من فلسطين، أو إنهاءً للحالة الجمعيّة اليهوديّة، أو قضاءً على الهويّة اليهوديّة على هذه الأرض. فقد كانت، هذه كلها، موجودةً قبل الصّهيونيّة، ولطالما كانت جزءًا من وجود التّجمّعات السكنيّة الكثيرة في فلسطين - أرض إسرائيل، ويمكن لها أن تعود على هذا النّحو. إنّ تحقيق هذا المستقبل يعتمد على تحمّلنا لمسؤولياتنا، وسعينا الدؤوب إلى تحقيقه. بعد كل هذا الكمّ من الدّم المسفوك، بعد عقودٍ من الدّمار، وبعد أن تحطّمت الجدران وانهار معها الشّعور بالأمن المزيّف الّذي وفّرته العسكريتاريا الإسرائيليّة، آن أوان إعادة بناء محافظة غزّة، وفلسطين بأسرها، على أساس العدالة.

في يوم التّضامن الدوليّ مع الشّعب الفلسطينيّ، نوجّه الدّعوة إلى الجميع، لتخيّل العودة، والتخطيط لها بوصفها حلًا عادلًا ومستدامًا.

لقد تشكّل قطاع غزّة في العام 1948، حين وجد فيها الفلسطينيّون الّذين طُردوا أو اضطرّوا للهرب من مناطقٍ أخرى في محافظة غزّة، ومناطقٍ أخرى من فلسطين، ملجأ. وقد حُظرت عليهم العودة إلى منازلهم منذ ذلك الحين. إن جذر المشكلة الّتي نراها اليوم، كامنٌ في هذه الأحداث التاريخيّة. لم يكن المفترض في غزّة، بالمطلق، أن تكون "قطاعًا" محاطًا بالأسوار، ومنفصلًا عن محيطه، فغزّة هي جزءٌ لا يتجزّأ من الوحدة الجغرافيّة القائمة بين البحر والنّهر.

يمكن للأمور أن تكون مختلفة، ويجب عليها أن تكون مختلفة. وذلك لن يتحقّق إلا إذا ما اعترفنا بأنّ ما من أحدٍ سيكون آمنًا حتّى نكون، جميعًا، آمنات وآمنين، لن يتحقّق هذا إلّا من خلال الاعتراف بحقّ العودة، نعم، يمكننا تحقيق حلٍّ عادلٍ ومستدام.

حتّى تاريخ السّابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) قمنا بنشر مقترحاتٍ كثيرةٍ داعيةٍ إلى تخيّل مستقبلٍ مستندٍ إلى العدالة وحقّ العودة للاجئين واللاجئات الفلسطينيّين والفلسطينيّات. أما اليوم، فإنّنا ندعو إلى تشجيع الجميع، ليس فقط على التخيّل، بل على تطوير رؤيا العودة، والعمل على تحقيقها. هذا هو الحلّ العادل للشّعب الأصلانيّ في البلاد، ولكلّ من يعيشون على هذه الأرض. علينا فقط أن نتحمل مسؤوليّة هذه الرؤيا، ونناضل من أجل العدالة، لنكون أحرارًا وآمنين حقًّا.
 

واليوم، ونحن نشهد أمام أنظارنا، جرائم تتفوق حتّى على الجرائم المرتكبة في العام 1948، والّتي نبذل وبذلنا جهدًا شاقًّا من أجل الكشف عنها على مدار سنوات، فإنّ لدينا فرصةً للإصلاح وجبر الضّرر. لا يمكننا أن نبقى مكتوفات الأيدي، أمام هذه الجرائم ومخططات التهجير، ولا أن نتعاون معها. يجب على اليهود، في إسرائيل والعالم، ومعهم ومعهنّ رجالٌ ونساءٌ من أصحاب الضّمير، من جميع أرجاء العالم، لكي يقفوا ويقفن على الجانب الصّحيح من التاريخ. إذ أنّه ما من عذرٍ يبيح السّماح لهذه الجرائم بالاستمرار، ولا العنف يبرر المزيد من العنف.

إن النّاس، في مختلف أنحاء العالم، وخاصة من أبناء وبنات الأجيال الشابة، العارفات والعارفين بالحقيقة، يخترن ويختارون العدالة. اليوم، صرنا نعرف الحقيقة، وهؤلاء الّذين ارتكبوا هذه الجرائم سيحاسبون على مواقفهم وأفعالهم. لقد حان وقت التغيير.

في مثل هذا اليوم، قبل 76 عامًا، أقرت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة رسميًا تهجير الفلسطينيّين. لقد صوّت المجتمع الدوليّ لصالح مسار الفصل، وإسباغ الطابع الأمني، وإعطاء الأولويّة لحياة فئة معينة من البشر على حساب حياة فئة أخرى. ومنذ ذلك الحين، فُقد عدد لا يحصى من الأرواح، ولا تزال الخسائر تتراكم . في الوقت الّذي نحيي فيه إحياء هذه الذكرى، آن الأوان لاعتبارها لحظة من أجل الدعوة إلى التغيير. بدلًا من الأسوار، دعونا نختار الترابط، وبدلًا من التهجير، دعونا نسعى إلى تحقيق العودة، وبدلًا من المفاضلة الهرميّة بين البشر، دعونا ندافع عن المساواة. دعونا نختار الأمل، جماعيًا، ودعونا نسعى جاهدين من أجل تحقيق مستقبل يستند إلى العدالة.