متى يكون الوقت مناسبًا للكتابة عن مجزرة الطنطورة؟

شهادة ياعيل حول مجزرة الطنطورة 03/03/2024
الطنطورة

متى يكون الوقت مناسبًا للكتابة عن مجزرة الطنطورة؟ هل يوجد أصلًا وقت مناسب لفعل الأمر؟
الكلمات مشحونة إلى حد كبير. منذ متى حصل ذلك: في حرب الاستقلال / التحرير / 1948. إن الحقائق لا تزال جدليّة.

في أيار (مايو) من العام 1948، جرى احتلال قرية الطنطورة على يد مقاتلي لواء "ألكسندروني". وبعد خمسين عامًا من ذلك الموعد، كشف تيدي كاتس، الذي كان، آنذاك، طالبًا في أبحاث التاريخ في جامعة حيفا، أنه قد جرى تنفيذ مجزرة في المكان ضد سكان القرية بعد انتهاء المعركة. وعندها انتظمت مجموعة من المقاتلين القدامى، الذين شاركوا في المعركة، من أجل حماية سمعتهم الطيبة.
 
قام والدي بتنظيم المجموعة التي بدأت بخوض معركة قضائيّة ضد كل من تيدي وجامعة حيفا، وهي معركة لم تنتهِ إلى أن نجحت المجموعة في مساعيها في شطب اللقب الأكاديمي الذي حصل عليه تيدي، وإلى أن تم سحقه. هنا يدخل دور الذكريات الأليمة التي تعتريني. لقد رأيت أبي مستغرقًا بكل ما فيه في تلك المعركة. كل من كان يدخل إلى منزلنا كان يتعين عليه أن يطالع وثائق المحكمة، وأن يبرر الصراع الذي خاضته المجموعة آنذاك. لم أكن أشعر بالراحة. لقد كنت أميل إلى تصديق الشهادات التي كشفها تيدي، وقد كنت منزعجة جدًا مما حصل هناك. لقد شعرت بالعار مما فعله هؤلاء في الطنطورة آنذاك، وبتيدي الآن، وقد تساءلت إذا ما كان والدي قد شارك في المجزرة. لكنني لم أكن قادرة على الوقوف في وجه عدوانيته. لقد شعرت بالخجل أيضًا من جامعة حيفا، التي خضعت للضغوط.

 بعد ذلك، شعرت أنني غير قادرة على العيش في إسرائيل المحتلة، فهجرتها. لا أعرف كيف تطورت الأمور إلى أن شاهدت فيلم الطنطورة (ألون شفارتز، 2022). كان من الواضح في الفيلم أن والدي، الذي قدم نفسه كإنسان مستقيم، كان يكذب. لم يكن الأمر سهلًا علي. إننا لن نعرف أبدًا إن كان قد شارك في المجزرة مشاركة فاعلة، فهو يدعي أنه لم يكن في الطنطورة في تلك الليلة. ولكنه، في المقابلة التي قام بها تيدي معه، والتي تم استعراض جزء منها في الفيلم، اعترف بأنه عرف ما الذي حصل هناك. مات أبي سنة 2003. أما غالبيّة زملاء والدي في المعركة وفي ملاحقة تيدي كاتس، ممن يظهرون في الفيلم، صاروا الآن يبلغون سنوات التسعين من أعمارهم، وقد اعترفوا أنه قد تم ارتكاب أعمال قتل، لا بل واغتصاب، وأنهم كانوا يكذبون في ذلك الحين دفاعًا عن صورتهم. هل، لو ظل والدي حيًا، كان سينضم إليهم الآن ويعترف بأنه هو الآخر قد كذب أثناء النزاع بين تلك المجموعة وبين تيدي ؟

هؤلاء هم الذين وصفناهم بأنقى الأنقياء، وتلك هي طهارة السلاح، هؤلاء هم من نسبوا لأنفسهم الفضل في القتال من أجل إقامة الدولة. هؤلاء هم من أنكروا، بشدة، كل ما من شأنه أن يمس بسمعتهم، وأيّة محاولة للكشف عن الحقائق التاريخيّة المختلفة عن سرديتهم.

واحد من الأمور التي أعتبرها صادمة بشكل شخصي في هذه القضيّة، إلى جانب المجزرة نفسها، تتمثل في ذكرياتي عن الذهاب إلى شاطئ الطنطورة في طفولتي (كان أبي لا يزال يستخدم الاسم العربي للمكان)، وكانت تلك الرحلة تمثل بالنسبة إلي دائمًا هديّة فريدة ومثيرة. هناك حيث الشاطئ، من أن ينبس بأيّة كلمة حول ما حصل هناك بعد الحرب. أما اليوم فقد صرت أعلم بأن ساحة ركن السيارات التابعة للشاطئ موجودة فوق ما نعرف اليوم أنه قبر جماعي لقتلى المجزرة. وقد كان أبي يعرف أن مجزرة قد وقعت. كيف كان يبرر الأمر لنفسه؟ إننا لن نعرف أبدًا. وعلى ما يبدو، فإنني قد امتصصت جزءًا كبيرًا من مشاعر الذنب لديه، ولربما كان بهذه الطريقة كان يريح نفسه.

عام 2023، أثبت البحث الذي أجرته Forensic Architecture [مجموعة الهندسة المعماريّة الجنائية]، وجود ثلاثة مقابر جماعيّة هناك! يشهد هذا على حجم المجزرة التي نفذت هناك. لا يزال أبناء أسر الضحايا ممنوعون من إنشاء نصب تذكاري لقتلاهم. ولكن قدامى محاربي لواء "ألكسندروني" قد نصبوا لأنفسهم بضعة أنصاب تذكاريّة، فما الذي تخشى منه دولة إسرائيل، وافرة القوّة، الآن؟ 

بات من المعروف اليوم، أن حرب العام 1948 قد شهدت وقوع مجازر أخرى، إلى جانب مذبحة دير ياسين الشهيرة.
لقد فرّ، و / أو طرد، حوالي 70% من سكان فلسطين ما قبل الحرب، من أراضيهم، وصاروا لاجئين. ثم منعتهم دولة إسرائيل من العودة، وقامت على نهب أراضيهم. لا يزال هؤلاء يناضلون من أجل العدالة، ومن أجل استعادة أملاكهم التي فقدوها.

من دون أن أحاول تبرير ما قامت به حماس في تاريخ 7 تشرين الأول / أكتوبر، فإن إدراك تسلسل الأحداث ليس بالأمر الصعب، وصولًا إلى إدراك الدافع الذي يحرك أحفاد اللاجئين في غزة إلى الكراهية والانتقام. إلى متى ستظل حلقة الانتقام مستمرة؟ إن هذه الحلقة لن تتوقف، في رأيي، قبل أن تعترف دولة إسرائيل بدورها التاريخي، بقيامها على أراض تم سلبها من أصحابها الفلسطينيين. وكما قال القس ديزموند تيتو بعد انتهاء نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا: لا يمكن تحقق المصالحة من دون الاعتراف بالحقيقة. لعله قد آن الأوان من أجل التوقف عن هذا العمى، ومن أجل النظر إلى الحاضر في إطار سياقه التاريخي. النظر إليه في ضوء الحقيقة التاريخيّة، لا في ضوء الاتهام.

(كانون الأول / ديسمبر 2023)
ياعيل